بين "حراكيش عدن" و"حباريش المكلا".. مشروع سياسي يحتضر وشعب يموت جوعا
الخميس - 31 يوليو 2025 - 07:47 م
صوت العاصمة | خاص | وهيب الحاجب
من جديد تعود حضرموت إلى صدارة المشهد الجنوبي باعتبارها محافظة ذات وزن جغرافي واستراتيجي واقتصادي وكحاضنة أولى للثورات السلمية، ومهد للحراك الجنوبي منذ انطلاق شرارته الأولى في 2007. فبعد سنوات من الترقب والصمت النسبي، انفجر الشارع الحضرمي في وجه الأوضاع المعيشية المنهارة، معلنًا بدء مرحلة جديدة من الحراك الشعبي، هذه المرة في مواجهة سياسات التجويع والتركيع، ومشاريع إفراغ حضرموت من هويتها ودورها الوطتي.
في الوقت الذي تشهد فيه العاصمة عدن انهيارًا شبه تام للخدمات وواقعًا معيشيًا هو الأسوأ في تاريح المدينة، تبدو العاصمة عدن اليوم غارقة في صمت شعبي محير ومخيف ومخيب، وبينما تسجل حضرموت، لاسيما مدنها الرئيسية كالمكلا، انتفاضة شعبية ناجحة أربكت جميع الأطراف المسيطرة والفاعلة في المشهد الحضرمي.. تتراجع عدن إلى أزمنة الاستبداد والتكميم والقمع.. وهذا التناقض الواضح يطرح تساؤلات منطفية ومشروعة منها: لماذا نجح الحضارم في كسر جدار الصمت، بينما فشلت عدن وارتضت الجوع والخنوع ، رغم أن المعاناة فيها تفوق ما تعانيه حضرموت بأضعاف؟ وما الذي جعل حضرموت ساحة فعل ثوري فاعل، بينما باتت عدن رهينة للجمود وحبيسة للصمت ومقيدة بأغلال "الشراكة" ومجبرة على السير بـ"الطريق الآمن" الذي لا أمان فيه ولا أمل منه؟
حضرموت مهد الثورة
الانتفاضة الشعبية في حضرموت اليوم ليست سوى امتداد لتاريخ طويل من الوعي السياسي والمبادرة النضالية منذ تجرأ الحضارم في وجه نظام صالح وقالوا للنافذين حينها صراحة "أنتم محتلون"، في موقف كسر حاجز الخوف والخنوع، ومهد لبروز صوت جنوبي حر ينادي بفك الارتباط واستعادة الدولة.. الاحتجاجات الحضرميّة اليوم تجاوزت كونها رد فعل على تدهور الخدمات أو انقطاع الرواتب أو تفاقم الفقر إلى ما يمكن أن يرتقي لوصفه بأنه "استفتاء شعبي" جديد ضد محاولات ليّ ذراع حضرموت ومصادرة إرادتها لصالح أجندات داخلية وخارجية
حضرموت لم تكن يومًا ساحة خاملة، بل مثلت، منذ فجر الحراك الجنوبي، النموذج الأرقى في المدنية والثورة السلمية، بعيدًا عن الانفعالات الفوضوية أو الولاءات الضيقة، وهذا ما يتكرر اليوم مع انتفاضتها ضد الانهيار الخدمي والمطالبة العادلة بحقوقها الاقتصادية والاجتماعية.
وعي مدني فريد
ما يميز حضرموت إلى جانت ثقلها الجغرافي والثقافي هو وعيها المدني، إذ ظلت حتى اليوم النموذج الجنوبي الأكثر حفاظا على سلمية الحراك، والأكثر مقاومة لمشاريع التفتيت والانقسام، فرغم المحاولات المستمرة لشق الصف الحضرمي وشراء الذمم، إلا أن الحراك الحضرمي ظل موحدًا حول مطالب واضحة تتعلق بالخدمات والثروات وكرامة الإنسان.
ما يزيد من خصوصية هذا النموذج، أن حضرموت، حتى في تحركاتها العسكرية والأمنية، لا تزال حضرمية الهوى والهوية، فقوات النخبة والأمن العام، على سبيل المثال، أثبتا ولاءهما للشعب لا للأطراف المتصارعة، حين انحازا للمحتجين ووفرا الحماية بدلاً من القمع، ورفضا تسييس مطالب الشارع أو تخوينه كما حصل مرارًا في عدن.
انتقالي بنكهة حضرمية
أحد أبرز الفوارق في مشهدي عدن وحضرموت يتمثل في أداء المكونات المحلية الأكثر فاعلية على الأرض، وعلى رأسها المجلس الانتقالي، ففي حين أظهر انتقالي عدن تماهيا تاما مع لغة القمع والتخوين، بدا انتقالي حضرموت مختلفًا تماما؛ إذا لم يتذرع بـ"المندسين"، ولم يُحرّك قواته لكسر الاحتجاجات، بل تعامل معها كحق شعبي وحاول أن يحتضنها ويتجنب الصدام معها، وهذا الموقف المتزن أضعف ذرائع بقية الأطراف وأظهر الفرق بين قيادة مسؤولة تحترم شارعها، وأخرى لا تزال تتعامل مع الناس كأوراق ضغط لا أكثر.
مدينة التي خذلتها نخبها
في المقابل تعيش العاصمة عدن، تحت سلطة وسيطرة الانتقالي، مفارقة مؤلمة، فالمجلس الذي يرفع شعار استعادة الدولة، أوصل المدينة إلى واقع تبدو معه أقرب إلى نموذج "المدينة الفاشلة".. فشل تام بالخدمات، انهيار المعيشة، غياب الدولة، تعطيل التعليم، فساد الجبايات، ورغم ذلك، لم تخرج احتجاجات منظمة أو مؤثرة، وإن خرجت سرعان ما يتم تشويهها أو قمعها أو تسييسها وتسفيهها.
وهنا يكمن جوهر الإشكال وهو تحوّل عدن من مدينة الفعل السياسي إلى ساحة نفوذ وصراع بين أطراف محلية وخارجية، تسعى كل منها لفرض هيمنتها على الشارع بدل تمكينه. وبدلاً من أن تكون الحاضنة الأم للثورة الجنوبية، أصبحت رهينة نخبة سياسية مشغولة بالتقاسم لا بالإصلاح، وبالحفاظ على المكاسب لا الاستجابة لمعاناة الناس.
صدمة النخبة
احتجاجات حضرموت أربكت كل اللاعبين السياسيين هناك "شرعية وانتقالي وحباريش وإخوان وكل القوى التقليدية، إذ تحدثت أنباء عن مغادرة شخصيات وقيادات بارزة لمدنية المكلا، فيما اختفت وجوه سياسية كثيرة من المشهد، وفضلت الصمت أمام ضغط الشارع وزخم المطالب والاحتجاجات. لم يتوقع أحد أن يتحرك الحضارم بهذه الكثافة والتنظيم والوضوح، فالحراك كان صفعة ناعمة في وجه عبث السنوات الأخيرة.
رسائل ودلالات
أن حضرموت ليست ساحة مستباحة للنفوذ الخارجي أو الداخلي، وأن قرارها بيد أبنائها، لا وكلاء السياسة والمصالح.
أن المدنية وقوة الحراك السلمي، متى ما توفرت الإرادة، أقوى من البنادق والدبابات والمليشيات.
أن الجنوب ليس عدن فقط، وأن حضرموت قادرة على قيادة مشروع استعادة الدولة من جديد إذا ما أُحسن الاستماع لها واحترام قرارها.
ختاما
حضرموت اليوم تثبت أنها ليست مخزون الجنوب من الثروات فقط، لكنها أيضا مخزون نضاله المدني والسياسي. فهي، أي حضرموت، رغم ما تعانيه من مشاريع تقسيم وتقاسم وشق صفوف وصراع نفوذ خارجي، ما زالت قادرة على فرض صوتها والتمسك بجنوبيتها وحقوقها. أما عدن، فالمطلوب منها أن تراجع حساباتها، وتحرر قرارها من قبضة النخبة التي أرهقتها، لتعيد الاعتبار لصوت الشارع باعتباره الطريق الوحيد لأي مشروع سياسي جاد.. حضرموت قدّمت درسًا في أن الوعي الشعبي قادر على انتزاع الحقوق متى ما توفرت القيادة المتزنة والشارع المنظم. أما عدن، بكل ما تمثل بُعد سياسي وثقل عسكري، فلابد لها أن تستفيق..!!
#وهيب_الحاجب