الاقتصادي لا يموت مرة واحدة!
الجمعة - 01 أغسطس 2025 - 02:04 ص
صوت العاصمة | خاص / د. هيثم جواس
يقال إن الاقتصادي يموت مرتين: الأولى حين يفارق الحياة، والثانية حين تموت أفكاره أو تفشل نظرياته في مواجهة الواقع. والحقيقة أن هذا القول يحمل جانبًا كبيرًا من الصدق، فالفكرة التي لا تصمد أمام اختبار التطبيق لا تساوي شيئًا مهما بلغ لمعانها في القاعات الأكاديمية.
لكن ما لا يُقال كثيرًا هو أن الاقتصادي يُبعث أيضًا مرتين: الأولى حين يولد علميًا من خلال البحث والتمحيص، والثانية عندما يرى أفكاره وقد تثمر وتتحول إلى قرارات وتغييرات ملموسة تنعكس على حياة الناس.
لقد كان لي شرف المساهمة في إعداد خطة التعافي الاقتصادي للحكومة اليمنية، وهي خطة لم تأتِ من فراغ، بل كانت حصيلة تحليل عميق للواقع الاقتصادي المنهك، واستيعاب دقيق لدروس الفشل ومقومات النجاح، وقد شارك في إعدادها فريق من العقول النزيهة والمؤمنة بقدرة هذا الوطن على النهوض مهما اشتدت العواصف.
واليوم، حين نطالع بعض القرارات الأخيرة التي اتُخذت على مستوى السياسة المالية والنقدية والإصلاحات المؤسسية، نجد أنها لا تمثل إلا جزءًا بسيطًا من مقترحات تلك الخطة. بل إن ما طُبّق منها جاء في كثير من الأحيان بصورة منقوصة، مشوهة أو دون تنسيق مؤسسي متكامل، ما قد يؤدي إلى إفراغها من مضمونها أو الحد من آثارها الإيجابية.
إن التعافي الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق بإجراءات مبتورة أو قرارات جزئية والسياسات المالية والنقدية والتجارية(الواردات والرقابة على الأسعار والأوزان والجودة). في أي نظام اقتصادي مثل الجسد، لا ينهض إذا ما عُولج طرف منه وتُرك الباقي ينزف. لهذا فإن النجاح الحقيقي لا يكمن في استعارة المفردات والمقاطع من الخطط، بل في تبني رؤية متكاملة، وتنفيذها بإرادة سياسية راسخة، وبمؤسسات قادرة لا مرتهنة، وبمهنية لا تخضع لحسابات المحاصصة والمناورة.
ولعل من أكبر التحديات التي نواجهها كاقتصاديين، هو أننا نعمل في بيئات معقدة، مشوشة، وغير مستقرة، لكن ذلك لا يعفينا من المحاولة، ولا من الأمل. فكل مقترح جاد هو بذرة، وكل حوار مسؤول هو أرض خصبة، وكل خطوة صادقة - وإن بدت صغيرة - هي بداية طريق أطول مما نظن.
لقد رأيت بعضًا من أفكاري ومقترحاتي تتجسد على الورق، ورأيت القليل منها يشق طريقه نحو الواقع، لكنني ما زلت مؤمنًا أن المستقبل يُصنع من التراكم لا من القفزات العشوائية، وأن التاريخ لا يُنصف الاقتصاديين سريعًا، لكنه لا ينسى من عمل بإخلاص.