خيـانـــــــة أمـانـــــــــــــة
الجمعة - 10 أكتوبر 2025 - 10:00 ص
صوت العاصمة|كتب|ريـــــم وليـــــــد:
نحو صرحٍ يتقابل فيه لونا العدل والظلم، وتنصت جدرانه لحفيف أسراره وخباياه، وتحجب سقفه دعوات لو سقطتْ لفضحتْ ما علمنا وما لم نعلم ... حيث لحىً تكذبُ، وذمم تباع وتشترى، وضمائر تنام، إلا مَن صَدَقَ الله، ففَقِه قداسةَ رسالته، وأدرك حمل الأمانة، طويتُ الطريق على عجالة إلى المحكمة لأحصل على أمرين على عريضة قبل بدء رئيس المحكمة جلساته: أمرٍ على عريضة بمنع مَدِين من السفر، وآخر لا أتذكره.*
*لم يختلف ذلك الصباح عن غيره، فالشرطة والموظفون والمحامون والقضاة هم أنفسهم، بنزيههم وفاسدهم، وإن نُدِب منهِم من ندب أو ترقى أو تحول إلى محاكم أخرى، أما المتقاضون الذين استهلكتهم الشهور وأهلكتهم السنون، بينما أقدامهم ما تزال تخطو صعدا في درجاتها، فقد أُلِفت وجوههم، عدا بضع صور جديدة، يبدو أن الظروف قد جرتهم إلى طريق المحكمة للمرة الأولى، أو لعلهم جاؤوا لقضاء بعض الإجراءات القانونية اللازمة لتسيير أمورهم.*
*كانت إحدى الشرطيات تقوم بواجبها كالعادة تفتش حقائب النساء، وتستغل وظيفتها هذه لإحراجهن بطلب شيء من النقود بوجه بريء متسول. تجاوزتُ ذلك التجمع الذي أحدثته أمام باب المحكمة قاصدةً مكتب القاضي، فلما وصلت لم أحرك ساكنا، فقد كان صوته يدوِّي في المكان، بعد أن اجتمع ببعض الموظفين باكرا في مكتبه، وإذا به يرسل في طلب إثنين من أمناء سر قضاة آخرين، فحضرا على الفور، وجعل يثور ويصيح... فقال أحدهما، وكانت الأصوات واضحة لنسمعها أنا وبعض زملاء المهنة:*
*- هذه ليست إلا شكاوى كيدية يا سيادة القاضي.*
*فصاح منتهرا إياه: - كيدية! تصلني من الشكاوى في اليوم الواحد ما لا يقع تحت حصر.*
*ثم أخذ يوبخهما على الأفعال الشائنة: - وأنت يا أمين سر والفاسد اللي جنبك، بطلوا تخفوا محاضر الشهود، وترفضوا تعلموا الخصوم بمواعيد جلساتهم، و تعقّدو الإجراءات على الناس! بطّلوا كلمة تعال بكرة، ومن فهم يدفع. اتقوا الله!*
*ثم استأنف كلامه بصوت مؤثر وحازم: - النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئا فشقَّ عليهم فأشقق عليه، ومن وَلِيَ من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به". ثم أردف بصوت عال جدا: الحديث هذا يجب أن يُعلق على مكتب كُل واحد منكما، وكل المكاتب الحكومية. صمتْ فهدأ المكان فجأة، ثم غادروا بعد حين متبرمين ممتعضين. دخلت بعدهم مباشرة، ولم أجده فقد غادر إلى قاعة جلساته عبر باب آخر في مكتبه.*
*إنه أحد القضاة العظماء الذين أنضجتهم السنون، رجل سليم الطوية، لا يبيت الخطأ في نفسه... ذا هيبة ووقار، وكان لصوته نفس الأثر الذي لحضوره في عين الرائي.*
*نظرت إلى ساعتي أتفقد الوقت -فأنا شخص يتحسس الزمن في كل شيء؛ لأنه في الأصل عمر الإنسان، و العمر لا يعود- كان قد مضى ما يجاوز نصف الساعة، ولم أستطع أن أنجز ما جئت لأجله، تركت المكتب متجهة إلى قاعة المحاكمة وبين يديّ بضع ملفات، أحدها ملف لقضية "خيانة أمانة" يخصُّ إحدى الشركات الحديثة التي أنشائها صديقان اثنان، الأول قد صفعته الثقة العمياء فصيرته الضحية والمتهم، والآخر هو المجني عليه، أحد أولئك الذين يسقطون شرور أعمالهم على غيرهم.*
*مُنح المتهم فرصة أخيرة لتقديم ما يبرؤه من التهمة المنسوبة إليه، ولعدم عثور المحامي المترافع عنه على كل ما يدحض التهمة عن موكله، ولظروف ما قضت ضرورتها بانسحابه عن القضية بزعمه، انسحب من القضية، ووكلت بها من بعده، ولما وصلت القاعة رأيت موكلي سارحًا ونظراته فاترة، مغتم الوجه، قد نيّبَ الشيب رأسه وذقنه، والتَهَمَه اليأس والعجز في السنتين الأخيرتين.* *أمضى كثيرا من وقته على حاله هذه، فذهب بعضه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.*
*لم أكد أدخل حتى سمعت لحظتها والده ينادني، فألتفتُ خلفي، فإذا به يتجه نحوي والشك والريب قد خامرا وجهه خشية تغيبي، كما بدا عليه، فاستعاد حينها ملامحه وارتدى السكون، وراح المسكين يتحدث، وهو يبتلع ريقه ، وقد عرّقه الحر الشديد، فيدلق ما بقلبه بين يديّ وكأنه لم يسمعني ذلك قبل أسبوع من توكيلي. شهِدتُ فيه حرصة الشديد على وريثه الوحيد.*
*اصطحبته إلى القاعة ليستريح على كراسيها الخشبية الطويلة، التي تبدو لي بطولها وصمودها كالقضايا التي مضى الكثير من أعمار أصحابها، وهي ما تزال منظورة لدى القضاء، ثم أقبلت على موكلي أناقشه حول قضيته ليسكُن قلقه، فيُعود شيءٌ من الصفاء إلى صورته الواجمة.*
*وبعد برهة ، دخل القاضي قاعة المحكمة، وأفتتح باب المرافعة متأخرا عن مواعيد جلساته كالعادة، على يمينه أمين السرِّ، وعلى يساره ممثل النيابة العامة، ومن أمامه قارورة ماء وأكداس ملفات مثخنة بالورق، للواحد منها حجم و روح قِطٍ، يعلم الله كم صار عمره.*
*أخذ يؤجل ويحرر ويقرر مصير هذا وذاك، وقد بدا ضيق صدره وكثرة تأففه، من حر القاعة الذي لم يرحمه ولم يرحمنا، فقد كان يوما كأنه من فيح جهنم. تناول القاضي قارورته، وراح يعبُّ الماء عبّا، كأنه بذلك يغرق الحر الذي اجتمع عليه، و بغرفة من الماء أَنْأَى خيوط الوسن التي أرخت عضلات وجهه اليافع خلال الساعتين السابقتين.*
*هتف القاضي مناديا باسم موكلي والنيابة والمجني عليه، فلما أذن بسماعي بعد تثبته من صحة وكالتي، استهللت مرافعتي بكلمتي التي أسعى بها للفت انتباه عدالة المحكمة:*
*- سيادة القاضي، إن القضاء مبني على التأني والتبصر، لذا فإنني أدفع بإنهاء إجراءات الدعوى الجزائية لعدم وجود الجريمة، لمدنية النزاع.* *وسلمت كلا من القاضي والنيابة نسخة من عريضة الدفع، وحافظة المستندات بمتعلقاتها من الأدلة والوثائق القانونية التي تدعم دفاعي، وبقيَت بحوزتي نسخة المجني عليه لعدم حضوره الجلسة. عندها انتفض عضو النيابة وماج حتى كاد أن يتميز من الغيظ، ورد منفعلا: - محامية الدفاع تفصح بهذا الدفع عن قصد المماطلة وإرباك سير العدالة.*
*عندها استأنفت دفاعي في بعض الثغرات التي شرعت من خلالها توجيه القاضي نحو الشكوك والمشكلات المرتبطة بالقضية، وتوضيح نقاط غير واضحة، واللبس الذي وقعت فيه النيابة، فتسرّعتْ على إثره في إحالة الملف إلى المحكمة، وقصدي من ذلك التأثير إيجابا على قرار القاضي، وممثل النيابة من جهته يعترض و يعيد ويزيد بما جاء في قرار الاتهام.*
*بدا القاضي مُتَملْمِلاً في جِلْسته، يتصبب عرقاً، ضائقا من تكرار المواقف ذاتها أمامه، وانقطاع الكهرباء بلا شك. وبعد اكتمال سماع المحكمة، ومناقشتنا، اكتفيتُ والنيابة العامة بما قدمناه سلفا عند توجيه القاضي سؤاله الأخير إلينا: - هل تبقى عند أحد الأطراف شيئا لتقديمه؟! وأخذ يحدد موعدا للجلسة القادمة للاطلاع وتقرير ما يلزم.*
*خرجت بعد ذلك من القاعة على الفور لأجري مكالمة هاتفية باءت بالفشل لخلل في الشبكة. تبعني والد موكلي إلى الخارج منبسط الأسارير، فشعرت بأن الكرب الذي أكتنفه قد أنفرج إلى حدٍّ كبير. ناولته قارورة ماء مدسوسة في حقيبتي: - تفضل يا عم. لكنه لم يصغ إلي؛ فقد أرهفَ أذنه إلى صوت ضحكات طليقة من فم المجني عليه الذي لم يحضر الجلسة، وقد بدى عليه اطمئنان عجيب، وهو يقف مع بعض المحامين وأعضاء النيابة في ممرٍ طويل، يؤدي في نهايته إلى باب بناية النيابة العامة، وقد تعرفت عليه لحظتها من خلال والد موكلي، فإذا بالمجني عليه يصفع أحدهم على قفاه، ويهمس في أذنه، فأخذ الآخر يخبط كرشه بيده خبطتين متتابعة قائلا: "الأمور طيبة". كان ذلك محامي موكلي السابق. تمكّنت من سماعه ومعرفته أيضا، فتنهّد الأشيبُ وقال مرتاعا: حسبنا الله ونعم الوكيل.*
*فقلت وأنا أحس إحساسا كله ثقة: - لست أملك الساعة أكثر من يقيني التام ببراءة موكلي. ثم لفّنا صمت هنيهة حمل معه مشاعر كثيرة، وأفكارا لا تقِلّ عنها، جعلتْ القلق يفيق بداخلهِ، فردّ عليّ، و ما كان ردا على ما قلته ، بل كأنه يتمم حديثه الذي بدأه مع نفسه - ماذا لو لم يكن الحكم لصالح ولدي!*
*فقلت باقتضاب وجدٍ: - نستأنف*.
*ثم ودعته، واتجهت إلى محكمة الاستئناف لحضور جلسات أخرى، وطفقتُ أستعرض في رأسي المشهد الأخير... ليته الأخير!*