أطفال اليمن بين الحـ.ـرب والعدالة المؤجلة: دراسة لتحالف رصد تكشف الفجوات والانتهاكات
الأربعاء - 15 أكتوبر 2025 - 11:50 م
تعز/صوت العاصمة/خاض:
أشاد المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحقيقة والعدالة الانتقالية وضمان عدم التكرار بيرنارد دوهايهم بالجهود التي بذلها التحالف اليمني لرصد انتهاكات حقوق الإنسان (تحالف رصد) في إعداد دراسته الأخيرة حول العدالة الانتقالية وانتهاكات حقوق الأطفال في اليمن، مؤكداً أن توثيق الانتهاكات وجمع الأدلة يمثلان "الأساس لأي عملية عدالة انتقالية ناجحة".
وتحدث دوهايهم في ندوة افتراضية نضمها التحالف اليمني لرصد انتهاكات حقوق الإنسان (تحالف رصد) بالشراكة مع منظمة معهد "دي تي" (DT Institute) مساء الثلاثاء 14 أكتوبر، واطلقا خلالها دراسة شاملة بعنوان �العدالة الانتقالية وانتهاكات حقوق الأطفال في اليمن�، تُعدّ من أوسع الدراسات الحقوقية التي تناولت أوضاع الطفولة في سياق النزاع اليمني المستمر منذ عام 2014، من منظور العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، وكشفت عن حجم الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الأطفال في اليمن، باعتبارهم يمثلون الفئة الأكثر تضرراً من الحرب المستمرة، في ظل ضعف الإطارين القانوني والمؤسسي لحمايتهم.
قيادات حقوقية محلية دولية عن العدالة الانتقالية والأطفال في اليمن
شهدت ندوة إطلاق الدراسة الجديدة حول �العدالة الانتقالية وانتهاكات حقوق الأطفال في اليمن�، حضورًا حقوقيًا وأمميًا بارزًا، ومداخلات أكدت على أهمية توثيق الانتهاكات وجبر الضرر وإنصاف الأطفال المتضررين من الحرب المستمرة منذ عام 2014.
في كلمته الافتتاحية، أكد مطهر البذيجي، المدير التنفيذي لتحالف رصد، أن العدالة الانتقالية تمثل “مسارًا نحو السلام المستدام”، مشددًا على أن الأطفال هم الفئة الأكثر هشاشة والأكثر تضررًا من النزاع. وقال البذيجي: "هناك حاجة للتوثيق الدقيق للانتهاكات ضد الأطفال، وجبر الضرر، وإصلاح مؤسسات حماية الطفولة. كما يجب إشراك الأطفال المتضررين وأسرهم في مفاوضات إحلال السلام، لأن تجاهل معاناتهم يرسّخ الإفلات من العقاب."
من جانبها، أوضحت سحر محمد، ممثلة معهد DT Institute، أن الهدف من المشروع والدراسة يتمثل في تعزيز وحماية حقوق الأطفال، ورفع الوعي المحلي والدولي بحجم الانتهاكات التي يتعرضون لها. وقالت: "نحن نعمل على تعزيز المشاركة والتعاون مع الجميع — من القطاع العام والخاص والمجتمع المدني — لضمان بيئة تحمي الأطفال من آثار النزاع وتعيد لهم الأمان والكرامة."
وخلال استعراضه لمضمون الدراسة، قال القاضي محمد الهتار، معد الدراسة والمتخصص في العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، إن التقرير يستعرض واقع حماية حقوق الأطفال في اليمن خلال النزاع المستمر منذ عام 2014، من خلال تحليل الإطار القانوني والمؤسسي، ورصد أنماط الانتهاكات وآثارها المتعددة، وتقييم الاستجابات المحلية والدولية. وأضاف أن الدراسة انطلقت من خلفية تؤكد أن النزاع أفرز أزمة إنسانية غير مسبوقة جعلت الأطفال الفئة الأكثر تضررًا، ما يتطلب تبني مقاربة شاملة تعالج الانتهاكات وتؤسس لضمانات عدم تكرارها.
وفي مداخلته أشاد المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحقيقة والعدالة الانتقالية وضمان عدم التكرار بيرنارد دوهايهم بجهود تحالف رصد، معتبرًا أن الدراسة “فريدة من نوعها في اليمن”، إذ قدّمت أدلة جديدة وأبرزت أصوات الضحايا. وقال المقرر الأممي: "أحيي العمل الذي قام به تحالف رصد في جمع الأدلة حول انتهاكات حقوق الإنسان. هذا التقرير يجب أن يطلق حوارًا وطنيًا واسعًا ويعزز التزامنا الجماعي تجاه الأطفال المتأثرين بالنزاع، سواء في اليمن أو في غزة أو في السودان أو في أي مكان آخر."
وأضاف أن النظام القضائي في اليمن لا يزال غير فاعل، وأن الأطفال يتعرضون لانتهاكات مستمرة دون مساءلة أو جبر ضرر فعّال، داعيًا إلى محاكمة المنتهكين وضمان العدالة الشاملة، مشيرا إلى أن مجلس حقوق الإنسان وهيئات الأمم المتحدة المعنية تدعم عمل تحالف رصد، وأن الدراسة سيتم عرضها ومناقشتها ضمن الدورة القادمة لمجلس حقوق الإنسان.
وختم المسؤول الأممي مداخلته بالقول: "الاعتراف والتحقيق ومعاقبة مرتكبي الانتهاكات ضد الأطفال ليس مجرد التزام إنساني، بل هو شرط أساسي لبناء العدالة وبناء مجتمع سليم."
وفي مداخلتها حول المناصرة الدولية، أكدت الدكتورة لين عربيد من معهد DT Institute أن أحد الأهداف الرئيسية للدراسة هو دعم الضحايا والحيلولة دون الإفلات من العقاب، من خلال التنسيق الفعّال والإرادة الجادة للمؤسسات المحلية والدولية. وقالت: "هناك دور محوري للمجتمع المدني اليمني في الرصد والتوثيق والمناصرة، وفي تضخيم أصوات الضحايا داخل مفاوضات السلام. الأصوات التي لا تُسمع هي جرحٌ مفتوح في مسار العدالة."، ونوهت إلى أن الدراسة كشفت عن ضعف الوعي بالعدالة الانتقالية بين المتضررين من الحرب، داعية إلى دعم الجهود المؤسسية والقانونية التي تصون حقوق الأطفال وتبني نظام حماية فاعل ومستدام.
وتحدث باسم الحاج، السكرتير الأول لمنظمة الحزب الاشتراكي اليمني في محافظة تعز، مشيرًا إلى أن الخلافات السياسية لا تزال تعرقل صدور قانون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية الذي تم طرحه قبل عقد من الزمن. وقال الحاج: "هناك قوى سياسية عارضت بشدة إصدار قانون العدالة الانتقالية، ولا يزال هذا التحدي قائمًا حتى اليوم، مما يشكل حجر عثرة أمام الوصول إلى سلام شامل ومستدام."
سياق الدراسة: الطفولة في قلب النزاع اليمني
منذ اندلاع الحرب في سبتمبر 2014، تحوّلت اليمن إلى واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، ودفع الأطفال الثمن الأكبر. تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن نحو 9.8 مليون طفل بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، وأن أكثر من 2.7 مليون طفل يعانون من سوء تغذية حاد، فيما قُتل أو شُوّه أكثر من 11,500 طفل حتى نهاية 2024، بينما يُرجّح أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى بكثير نتيجة غياب آليات رصد وطنية فعالة.
وبحسب الدراسة، فإن جميع أطراف النزاع ارتكبت انتهاكات جسيمة بحق الأطفال، شملت التجنيد القسري، والعنف الجنسي، والهجمات على المدارس والمستشفيات، والحرمان من المساعدات الإنسانية، والاختطاف والإخفاء القسري.
ويُعدّ التعليم من أكثر القطاعات تضرراً؛ إذ فقد أكثر من مليوني طفل إمكانية الالتحاق بالمدارس، وتعرضت 3,000 مدرسة للدمار أو الاستخدام العسكري.
منهجية الدراسة: مقاربة تحليلية ميدانية
اعتمدت الدراسة على منهجية مختلطة جمعت بين التحليل القانوني والمؤسسي، والاستبيانات الميدانية التي شملت 77 فرداً من الضحايا وأسرهم، و13 مؤسسة عاملة في مجال حقوق الطفل، و14 ممثلاً عن الأحزاب والمكونات السياسية.
وركّزت العينة جغرافياً على محافظة تعز ومناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، مع الإشارة إلى صعوبة الوصول إلى مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) لأسباب أمنية.
كما قارنت الدراسة بين التشريعات اليمنية والتزامات البلاد الدولية، واستعرضت تجارب دول أخرى في دمج قضايا الطفولة ضمن مسارات العدالة الانتقالية، بغرض استخلاص دروس قابلة للتطبيق في السياق اليمني.
نتائج الدراسة: فجوة تشريعية ومؤسسية عميقة
أظهرت النتائج أن الإطار القانوني اليمني لحماية حقوق الطفل ضعيف للغاية، إذ يرى 73.3% من المشاركين أنه لا يوفر الحد الأدنى من الحماية، فيما قيّم 79.7% أداء المؤسسات الحكومية بأنه ضعيف أو ضعيف جدًا.
ورصدت الدراسة فجوات قانونية خطيرة، أبرزها: غياب نصوص صريحة تُجرّم تجنيد الأطفال، وعدم تحديد سن أدنى للزواج بما ينسجم مع المعايير الدولية، وضعف العقوبات على جرائم العنف الجنسي والاستغلال، تضارب القوانين وتعدد السلطات التشريعية منذ اندلاع النزاع.
كما بيّنت أن معظم مؤسسات الدولة المعنية بالطفولة – مثل المجلس الأعلى للأمومة والطفولة – متوقفة عن العمل، وأن الخطط الوطنية للحماية مرهونة بتمويل المانحين والمنظمات الدولية، بينما يقتصر دور المجتمع المدني على جهود توثيقية ومساندة نفسية وتعليمية محدودة بسبب ضعف التمويل وتسييس النشاط الحقوقي.
انتهاكات واسعة وأثر متضاعف على الفتيات
من بين أبرز نتائج الدراسة أن تجنيد الأطفال هو الانتهاك الأكثر انتشاراً بنسبة 88.7%، يليه القتل والإصابة (61.7%)، ثم العنف الجنسي (51%)، والهجمات على المدارس والمستشفيات (50%)، والاختطاف (35.3%)، وحرمان الأطفال من المساعدات الإنسانية (51.4%).
وجاء في الدراسة أن الفتيات والأطفال ذوي الإعاقة والنازحين هم الأكثر هشاشة وتعرضاً للانتهاكات، نتيجة تداخل النوع الاجتماعي والوضع الاقتصادي والموقع الجغرافي، مما يجعل الطفولة اليمنية في مواجهة مركّبة مع العنف والفقر والإقصاء.
وسجّلت الدراسة أن الآثار النفسية تأتي في مقدمة تداعيات الانتهاكات، تليها الإصابات الجسدية وفقدان فرص التعليم. وعلى المدى الطويل، تبرز الصدمات النفسية والاجتماعية، والعزلة، وانهيار الثقة الأسرية، وتنامي ميول العنف، وهي عوامل تنذر بإعادة إنتاج النزاع مستقبلاً إن لم تُعالج بجذور اجتماعية وقانونية.
العدالة الانتقالية: إنصاف مؤجل وتوصيات محورية
تُعد الدراسة من أوائل الأبحاث اليمنية التي تربط بين قضايا الأطفال ومسار العدالة الانتقالية. وتشير إلى أن الخطابات السياسية للأحزاب والمكونات ما تزال منقسمة: "فبينما يؤيد بعض الفاعلين توثيق الانتهاكات وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات، يُظهر آخرون تجاهلاً أو تسييساً لقضايا الطفولة، ما يهدد شمولية أي عملية عدالة انتقالية مستقبلية."
وترى الدراسة أن إنصاف الأطفال شرط أساسي لأي مصالحة وطنية حقيقية، وأن معالجة الانتهاكات ضدهم لا بد أن تتجاوز الإغاثة إلى إصلاح تشريعي ومؤسسي شامل يضمن المساءلة وعدم التكرار.
خلصت الدراسة إلى أن نجاح أي مسار للعدالة الانتقالية في اليمن مرهون بجعل حماية الأطفال أولوية وطنية، من خلال إصلاحات قانونية ومؤسسية، وتفعيل آليات جبر الضرر، وإشراك المجتمع المدني في الرصد والمساءلة، وضمان خدمات الدعم النفسي وإعادة الإدماج. كما دعت إلى تعزيز المساءلة القانونية عن الانتهاكات، وإنشاء آليات مستقلة لمعالجة جرائم الحرب ضد الأطفال، وبناء عدالة انتقالية صديقة للطفولة، تستند إلى مبادئ عدم الإفلات من العقاب وضمان عدم التكرار.
تأتي هذه الدراسة في لحظة حرجة من مسار الحرب اليمنية، لتعيد تسليط الضوء على واحدة من أكثر القضايا إلحاحاً — حماية الطفولة من الانتهاكات الجسيمة — وتضع أمام صانعي القرار خارطة طريق شاملة نحو إنصاف الأطفال كضحايا، وتمكينهم كشركاء في بناء مستقبل السلام في اليمن.