أخبار دولية



‏إرث الزنداني والترابي.. عودة الـ.ـتكفير والتضليل

الأحد - 23 نوفمبر 2025 - 01:38 ص

‏إرث الزنداني والترابي.. عودة الـ.ـتكفير والتضليل

كتب/ هاني مسهور



في لحظةٍ باتت فيها الدول العربية أكثر يقينًا بأن مستقبلها مرهون بقدرتها على تجديد الخطاب الديني، تصعد فجأة أصوات تدعو، بلا خجل ـ لإحياء إرث عبدالمجيد الزنداني، وكأن هذا الإرث لم يكن أصل الخراب، ولا الشرارة الأولى التي حوّلت الدين لوقود حروب لا تنتهي.

إن الدعوة لإحياء هذا الإرث اليوم ليست مجرد رأي في سياق مضطرب، بل انتكاسة فكرية وأخلاقية تعيد المنطقة إلى زمن الفتاوى التي تصنع الموت، وإلى مرحلة الكهنوت السياسي الذي يخلط بين النص الإلهي وشهوة السلطة، وإلى خطاب يقف في الضفة المقابلة تمامًا لأي مشروع إصلاحي جاد يضع الإنسان قبل الجماعة، والعقل قبل العاطفة، والدولة قبل التنظيم.

المفارقة أن هذه الدعوات تظهر في اللحظة نفسها التي بدأت فيها الدول العربية، من دولة الإمارات والسعودية إلى مصر والمغرب، صياغة نموذج جديد للدين قائم على الروح المدنية، وعلى تحرير المجال الديني من قبضة تجار الفتاوى الذين جعلوا من النصوص مطايا للمشاريع السياسية.
وبينما يتقدم هذا المسار في اتجاه عقلنة الخطاب الديني وتحريره من ثقافة الموت، يخرج من يريد إعادة تدوير الأسماء التي صنعت صدام المنطقة مع نفسها، وكأنهم يطلبون من المجتمع أن يعود إلى المقابر الفكرية ذاتها التي خرجت منها كل موجات التطرف.

وإذا كان الزنداني جزءًا من هذا الإرث، فإن حسن الترابي يقف في الجهة الأخرى من المأساة ذاتها. كلاهما ليس مجرد شخصية دينية جدلية، بل ظاهرة سياسية شكّلت قلب أزمة الإسلام السياسي طوال أربعين عامًا، كلاهما استخدم الدين بوصفه منصة للهيمنة، والفتوى بوصفها سلاحًا، والجماعة وسيلة للسيطرة، كلاهما حوّل النص الديني إلى خطاب تعبوي يدفع الشباب إلى الجبهات بينما يبقى هو في المناطق الآمنة، بعيدًا عن رائحة الدم الذي يحرّض عليه.

لم يكن حسن الترابي يومًا مفكرًا إصلاحيًا، بل كان مهندسًا بارعًا لتحويل الدين إلى مشروع حرب، في زمن تحالفه مع عمر البشير، قاد الترابي واحدة من أضخم عمليات التحريض الديني في تاريخ السودان الحديث، ودفع بمئات الآلاف من الشباب إلى محرقة جنوب السودان، مستخدمًا كل أدوات الدعاية من “الجهاد” إلى “الشهادة” وصولًا إلى “جنة الخالدين”، كانت الحرب بالنسبة إليه منصة لتكريس سلطته، لا دفاعًا عن دين ولا حماية لعقيدة.

لكن اللحظة التي عرّت الرجل بالكامل لم تكن خطابه التعبوي، بل انقلابه عليه، فحين تغيّرت الحسابات، جلس الترابي مع جون قرنق، الرجل الذي ملأ الدنيا ضده صراخًا، والذي قال عنه إن قتاله “طريق إلى الجنة”.

وعندما سئل: ماذا تقول للشباب الذي يذهب اليوم لقتال قرنق؟، قال ببرود مرير: “يموت فطيس”، كانت تلك العبارة وحدها كافية لنسف كل الخطاب الذي بنى عليه مشروعه، وكشفت أن الدم الذي سال لم يكن له عنده أي قيمة، وأن “الجهاد” الذي باعه للناس لم يكن إلا كذبة سياسية ضخمة، وأن الموت بالنسبة إليه كان مجرد وقود لتحريك لعبة السلطة.

أما عبد المجيد الزنداني، فقد كان النسخة الأكثر خطورة من نموذج “الداعية العسكري” الذي يقود الحروب من خلف الميكروفون بينما يعيش هو في رفاه كامل، في الثمانينات، تحوّل الرجل إلى أشهر مروّجي “كرامات المجاهدين” في أفغانستان، وصنع خطابًا إعلاميًا ضخمًا لتمجيد الموت، مستخدمًا الدين كوقود لمعركة لا علاقة لها بالعقيدة بقدر ما كانت جزءًا من صراع دولي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

لم يقاتل الزنداني يومًا، ولم يقترب من ساحات الموت التي دفع إليها آلاف الشباب اليمنيين والعرب، لكنه لم يتردد في تجييشهم تحت رايات “النصر الإلهي” و”فتوحات الأمة”، ثم عاد هو ليعيش حياته متنقلاً بين إسطنبول وصنعاء والدوحة، بينما الذين صدّقوا خطاباته دُفنوا في مقابر بلا أسماء.

وحتى بعد عودته إلى اليمن، لم يتوقف عن ممارسة الدور ذاته: ترويج الخرافة، إعادة تفسير الدين لصالح الصراع السياسي، بناء أجيال مشوهة ثقافيًا وروحيًا، وإنعاش بيئة التطرف التي مهّدت لاحقًا لصعود القاعدة، ثم داعش، ثم المليشيات التي مزّقت اليمن، وحوّلت مجتمعه إلى كتل متناحرة.

إن الخطر لا يكمن في شخصين رحلا، بل في الإرث الثقيل الذي تركاه خلفهما، هذا الإرث هو الذي جعل آلاف الشباب يرون العنف امتدادًا طبيعيًا للعقيدة، وهو الذي جعل الفتوى بديلًا عن القانون، والسلاح بديلًا عن السياسة، والدين بديلًا عن الدولة، إنه الإرث نفسه الذي تقسّم بسببه السودان إلى هويات مسلّحة، وانفجر بسببه اليمن إلى جماعات تكفيرية، وتصدعت بسببه المنطقة في أكثر من جبهة، وهو الإرث الذي تستثمر فيه جماعات مثل الإخوان والحوثيين والمليشيات العابرة للحدود حتى اليوم، لأن فكر الترابي والزنداني ما زال يوفر لها الشرعية الفكرية التي تسوّغ بها وجودها.

إن الدعوة اليوم لإحياء إرث من هذا النوع ليست بريئة، ولا هي مجرد محاولة ثقافية لاستعادة الماضي، إنها هجوم مباشر على مشروع الدولة العربية الحديثة، وعلى مسار الإصلاح الديني الذي تسعى إليه العواصم الكبرى، فالرؤية التي تقودها دولة الإمارات ومصر والمغرب تقوم على تحرير الدين من الاستغلال السياسي، وعلى إعادة بناء علاقة جديدة بين الفرد والدين، قائمة على السكينة وليس العنف، وعلى الأخلاق لا على الكراهية، وعلى المواطنة لا على الولاءات العمياء، وكل دعوة لإحياء الزنداني أو الترابي هي في جوهرها محاولة لإحياء الإسلام السياسي في لحظة بدأت فيها المنطقة تتجاوز هذا الطور.

تجديد الخطاب الديني لا يبدأ من استعادة المواعظ القديمة، ولا من تلميع رموز صنعت مآسي العصر الحديث، بل يبدأ من دفن هذا الإرث، وفصل الدين عن الجماعات التي استخدمته سلاحًا في معاركها، ومن إعادة الدين إلى مكانه الطبيعي بوصفه مصدرًا للقيمة الأخلاقية، لا منصة للموت.

إن مواجهة التطرف اليوم تبدأ من مواجهة هذا الإرث بشجاعة، والكفّ عن تجميل تاريخ صنع الخراب، والاعتراف بأن الفتوى التي تقود إلى الحرب ليست دينًا، والنص الذي يصنع الموت ليس وحيًا، والخطاب الذي يهدم الدولة لا يمكن أن يكون جزءًا من مشروع نهضة.

الترابي والزنداني رحلا، لكن أثرهما لم يرحل، وما لم ندفن إرثهما السياسي والديني، فلن نتقدم خطوة واحدة نحو مستقبلٍ أكثر أمانًا وعقلانية.



الأكثر زيارة


رسالة غير متوقعة من الحو/ثيين إلى السعودية .

السبت/22/نوفمبر/2025 - 10:37 ص

صعدت مليشيا الحوثي الإرهابية، لهجتها ضد المملكة العربية السعودية، موجهة رسالة إلى ولي عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان. ولمح عضو المكتب السياسي للمليش


صلح قبلي في مديرية الشعيب ينهي قضايا قتل دامت عشرين عام.

السبت/22/نوفمبر/2025 - 04:24 م

بحضور قيادة السلطة المحلية والانتقالية بالمديرية ممثلةً بمدير عام المديرية رؤوف الجعفري ورئيس المجلس الانتقالي بالمديرية العميد يحيى عباد ومرجعية الشع


عرس يتحول إلى مأتم.. حادث مروع يودي بحياة عروس وقريبتها وسرق.

السبت/22/نوفمبر/2025 - 06:47 م

شهدت محافظة إب مأساة إنسانية بعد أن تحول حفل زفاف إلى عزاء إثر حادث سير مروع وقع يوم أمس على طريق مديرية معبر بمحافظة ذمار. كانت عروس من قرية "ذي عَسَ


اتهامات خطيرة للعليمي بتحويل قطاع شبوة النفطي لنجله وشريكه ا.

السبت/22/نوفمبر/2025 - 09:18 م

تتصاعد حدة الجدل والاتهامات في الأوساط السياسية والاقتصادية اليمنية بعد قرار مثير للجدل أصدرته وزارة النفط والمعادن، يقضي بإقصاء شركة "بترومسيلة" الوط