كيف مهّد الجنوب للاستقلال الأول؟.. قراءة في مسار النضال بالماضي والحاضر
الثلاثاء - 25 نوفمبر 2025 - 12:08 ص
صوت العاصمة/ تقرير/ محمد الزبيري
عندما يُستعاد الحديث عن استقلال الجنوب في 30 نوفمبر 1967، لا يُستعاد حدثٌ عابر، بل ذاكرة شعبٍ صنع بدمائه وتضحياته واحدًا من أبرز التحولات السياسية في المنطقة العربية خلال القرن العشرين.
لم يكن ذلك الاستقلال وليد صدفة أو ظرف طارئ، بل كان التتويج الحتمي لقرنٍ وربع من التراكم النضالي والتشكّل الاجتماعي والسياسي.
لقد مهّد الجنوب لاستقلاله الأول بطريقة فريدة، لأنه لم يدخل التاريخ من باب المصادفة، بل من بوابة الكفاح المنظم الذي انطلق من القرى والجبال، وتمدد إلى المدن والسواحل، حتى تحوّل إلى ثورة شاملة قادرة على إسقاط واحدة من أقوى إمبراطوريات التاريخ.
لم تكن أرض الجنوب سهلة على المستعمر البريطاني الذي دخل عدن عام 1839 بهدف السيطرة التجارية ثم السياسية.
فمنذ اللحظة الأولى، واجهت مشاريع الهيمنة مقاومات قبلية وشعبية متعددة، وإن جاءت في بداياتها متفرقة، إلا أنها عبّرت عن يقظة مبكرة لروح الحرية لدى المجتمع الجنوبي.
ومع مرور الزمن، نضجت تلك الروح وانتقلت من حالة الرفض الفردي والقبلي إلى حالة الوعي الوطني الشامل. بدأت القوى الجنوبية تنظم نفسها سياسيًا، وتؤسس حركات وطنية، وتبني خطابًا جامعًا، وصولًا إلى لحظة الانفجار الكبرى مع ثورة 14 أكتوبر 1963 التي فتحت الطريق نحو الاستقلال الأول.
هذا التقرير يضع صورة شاملة لمسار الجنوب نحو استقلاله الأول، محللًا جذور النضال المبكر، ودور المقاومة الشعبية، ونشأة الحركات السياسية، ومحورية عدن كرافعة للوعي. كما يربط التقرير بين ماضي الاستقلال الأول ومشروع استعادة الدولة الذي يحمله اليوم المجلس الانتقالي الجنوبي بقيادة الرئيس عيدروس الزبيدي، باعتباره الامتداد الطبيعي لتلك المسيرة التاريخية التي لم تنقطع.
*الجذور الأولى للوعي الوطني الجنوبي*
لم يولد الوعي الوطني الجنوبي مع ثورة 14 أكتوبر، بل تشكل عبر عقود طويلة من الاحتكاك بين المجتمع المحلي والمستعمر.
فمنذ احتلال عدن في منتصف القرن التاسع عشر، بدأت المدينة تتحول إلى مركز تجاري عالمي، ما أدى إلى نشوء طبقات اجتماعية جديدة، أبرزها طبقة العمال المنظمة والفئات المتعلمة والمثقفة.
في هذه البيئة الجديدة، نمت بذور الوعي الوطني وأدرك المثقفون والموظفون ورجال القبائل أن الوجود البريطاني ليس شراكة بل هيمنة، وأن الجنوب بحاجة إلى كيان سياسي يعبر عن هويته ويحمي مصالحه. بدأت الصحف المحلية في الظهور، وتشكلت النقابات العمالية والمهنية المبكرة، وظهرت جمعيات وأحزاب صغيرة طالبت بإصلاحات سياسية وحقوقية، مما أسهم في إنضاج الفكرة الوطنية.
ورغم أن هذه الحركات لم تكن ذات تنظيم قوي في بداياتها، إلا أنها وضعت الأساس الفكري والسياسي للثورة القادمة. لقد تبلور شعور عام بأن الجنوب ليس مجرد محميات متناثرة أو مستعمرة تابعة، بل هو وطن يستحق أن ينال استقلاله، وأن أبناءه قادرون على قيادة دولتهم.
*المقاومة المبكرة: من القبيلة إلى الحركة الوطنية*
مع بدايات القرن العشرين، أخذت المقاومة ضد الاحتلال البريطاني طابعًا أكثر تنظيمًا. كانت في معظمها قبلية ومحلية، لكنها شكّلت الخطوة الأولى نحو بناء جبهة وطنية واسعة. رفضت قبائل يافع وردفان والضالع ولحج وغيرها التدخل البريطاني في شؤونها، واشتبكت مرارًا مع القوات البريطانية في معارك متفرقة أثبتت صلابة المقاتل الجنوبي.
كانت هذه المقاومة، رغم عدم مركزيتها، عنيدة وناجحة في إزعاج المستعمر وإجباره على مراجعة سياساته.
ورغم لجوء بريطانيا إلى أساليب قمع وحشية، بما في ذلك سياسة "الأرض المحروقة" وتدمير القرى، ظلت جذوة المقاومة مشتعلة.
مع مرور الزمن، بدأت النخب المتعلمة في عدن تعمل على توحيد المطالب وربط المقاومة القبلية بمشروع تحرري سياسي شامل. من هنا، تصاعدت الفكرة الوطنية من أطراف الريف إلى قلب المدينة، لتتبلور فكرة "الحركة الوطنية" التي أصبحت لاحقًا النواة للكيان الثوري الذي قاد التحرير.
*عدن: المدينة التي قادت الوعي السياسي*
بقدر ما كانت عدن هدفًا استراتيجيًا للمستعمر، كانت أيضًا المحرك الذي انطلق منه الوعي السياسي الحديث للجنوب.
شهدت المدينة تحولات اجتماعية عميقة، واحتضنت حركة عمالية نشطة، وظهرت فيها نقابات صحفية وطلابية وتجارية مبكرة لعبت دورًا محوريًا في النضال.
تأثر المجتمع العدني بالأفكار القومية والتحررية التي اجتاحت المنطقة العربية، خاصة بعد ثورة الضباط الأحرار في مصر عام 1952 بقيادة جمال عبد الناصر.
ظهرت في عدن حركات سياسية متعددة، بدأت جميعها في توجيه خطاب يطالب بإنهاء الاستعمار، وإن تفاوتت في رؤاها التكتيكية. لكن القاسم المشترك بينها كان رفض استمرار السيطرة البريطانية والمطالبة بحق الشعب الجنوبي في تقرير مصيره.
نجحت عدن في تحويل النضال الشعبي من مجرد مقاومة قبلية متفرقة إلى عمل سياسي منظم، وكان هذا التحول حاسمًا في تمهيد الطريق للثورة المسلحة عام 1963، التي أطاحت بالاستعمار بعد أربع سنوات من الكفاح المرير.
*ثورة 14 أكتوبر: الانطلاقة الحاسمة نحو الاستقلال*
في الرابع عشر من أكتوبر 1963، انطلقت الشرارة الأولى للثورة المسلحة من جبال ردفان، لتبدأ مرحلة جديدة وحاسمة في تاريخ الجنوب.
كانت الثورة تتويجًا لعقود من الوعي السياسي المتراكم والمقاومة الشعبية والتحولات الاجتماعية وشكلت هذه الثورة نقطة انعطاف تاريخية، حيث نقلت الجنوب من مرحلة المطالب السياسية إلى مرحلة المواجهة العسكرية المباشرة مع الإمبراطورية البريطانية.
تميزت الثورة بقدرتها على توحيد الجبهات والمناطق الجغرافية تحت هدف واحد: تحرير الجنوب واستعادة الدولة. وبهذا المعنى، لم تكن ثورة 14 أكتوبر حدثًا محليًا، بل كانت حركة تحرر وطني شاملة.
رغم شراسة الرد البريطاني، أثبتت الثورة قدرتها على الصمود والتمدد، ونجحت في فتح جبهات متعددة من ردفان إلى الضالع ويافع، ثم أبين وشبوة وحضرموت. كانت قوات المستعمر تواجه شعبًا لا يساوم، ونضالًا لا يتراجع، وإرادة لا تقهر، حتى أدركت لندن أن الجنوب لم يعد قابلًا للإخضاع.
*توحيد الصفوف تحت راية التحرير*
مع تصاعد وتيرة الثورة، أدرك الثوار أن النصر يتطلب توحيد الجهود تحت قيادة موحدة حيث برزت تنظيمات ثورية رئيسية ابرزها تنظيم الجبهة القومية وجبهة تحرير الجنوب
تبنت الجبهة القومية الكفاح المسلح كطريق وحيد للتحرير، وتمكنت بفضل خطابها السياسي الواضح وتنظيمها المحكم من أن تصبح قوة سياسية عسكرية بارزة على الساحة.
عمل هذا التنظيم بوعي على ترسيخ الوحدة الوطنية، فدمج المقاتلين من مختلف المناطق، ونسّق بين العمل الفدائي في المدن والكفاح المسلح في الجبال كما حافظ على خطاب وطني جامع يشدد على الهوية الجنوبية وحق الشعب في الاستقلال، وهو ما أكسبه تأييدًا شعبيًا واسعًا.
مع اقتراب موعد رحيل المستعمر، وبعد حسم الصراع مع القوى الأخرى، تمكن هذا التنظيم من فرض نفسه كممثل شرعي للشعب الجنوبي، مما ضمن انتقال السلطة إليه بسلاسة بعد إعلان الاستقلال في 30 نوفمبر 1967 وتأسيس الدولة الجنوبية.
*من الثورة إلى الدولة: الاستعداد لمرحلة ما بعد الاستقلال*
مع كل خطوة نحو الاستقلال، كان قادة الثورة يفكرون في تحديات "ما بعد التحرير". فالاستقلال لا يكتمل إلا ببناء دولة قادرة على إدارة شؤونها. وهنا برزت أهمية التنظيم السياسي الذي قاد الثورة، والذي مكنها من الانتقال بسلاسة من قيادة الكفاح إلى قيادة الدولة.
بعد الاستقلال، تم توحيد أكثر من 20 سلطنة وإمارة ومشيخة في كيان وطني واحد. وبدأت عملية بناء مؤسسات الدولة الحديثة، من جيش وطني وأجهزة أمنية، إلى سن القوانين وتنظيم القطاعات الاقتصادية والتعليمية والخدمية. ورغم أن التجربة واجهت تحديات جسيمة، إلا أنها عكست إرادة حقيقية لبناء دولة عصرية.
كان الاستقلال الأول تتويجًا لنضال مرير، ولكنه كان في الوقت نفسه بداية معركة جديدة: معركة البناء والتنمية. وقد نجح الجنوب في تلك المرحلة، رغم كل الصعوبات، في تثبيت نفسه كدولة فاعلة ذات حضور سياسي وثقافي في المنطقة.
*من الاستقلال الأول إلى مشروع استعادة الدولة: إرث نضال لا ينقطع*
يمثل الاستقلال الأول للجنوبيين اليوم أكثر من مجرد ذكرى؛ إنه الأساس الذي تُبنى عليه رؤية المستقبل. فالمعركة التي خاضها الآباء ضد الاستعمار تستكمل اليوم بصورة جديدة، يقودها المجلس الانتقالي الجنوبي الذي تأسس عام 2017 ليعيد تنظيم الإرادة الشعبية ويوحد الصوت الجنوبي.
لقد أعاد الرئيس عيدروس الزبيدي الروح للمشروع الوطني الجنوبي، باعتباره الامتداد الطبيعي لذلك الإرث النضالي. فالنضال اليوم ليس مجرد استعادة للماضي، بل هو مشروع لاستعادة الدولة التي أُعلنت لأول مرة في 30 نوفمبر 1967، وإعادة بناء مؤسساتها على أسس سيادية حديثة.
إن مشروع استعادة الدولة ليس شعارًا عابرًا، بل هو رؤية سياسية تستند إلى تاريخ طويل من التضحيات، وتجارب سياسية واقتصادية، ومسار وطني يزداد قوة ورسوخًا. وكما نجح الجنوب في طرد المستعمر في الستينيات، فإنه يسير اليوم بثبات نحو استعادة دولة الجنوب كاملة السيادة.