الجنوب والتحالف العربي: لعبة الفرص والواقع الصلب
الأحد - 14 ديسمبر 2025 - 11:46 م
صوت العاصمة/ كتب/ فضل صالح
لطالما كانت اليمن مسرحًا لصراعات معقدة بين الشمال والجنوب، وبين القوى الإقليمية والدولية، لكن ما حدث مع انطلاق عاصفة الحزم عام 2015 يكشف بوضوح طبيعة هذه التوازنات، خصوصًا في العلاقة بين الجنوب والسعودية والتحالف العربي. هذه المرحلة لم تكن مجرد حرب عسكرية، بل اختبارًا دقيقًا لقدرة الأطراف المختلفة على قراءة الواقع السياسي واستثمار الفرص التاريخية، بما في ذلك استعادة الجنوب لدوره الضائع منذ 1994.
*السعودية والجنوب: وعي مسبق بالواقع*
من الخطأ الاعتقاد أن السعودية كانت تتخوف من استقلال الجنوب أو تفاجأت بموقف الجنوبيين أثناء اندلاع عاصفة الحزم. فالرياض، منذ سنوات قبل 2015، كانت على دراية تامة بتاريخ نضال الجنوب الطويل منذ حرب 1994، ووعيها بحراك الجنوبيين السلمي والمسلح، وبقدرتهم على استثمار أي فرصة لتعزيز موقفهم السياسي والعسكري. فقد أظهرت التجارب السابقة أن الجنوب لا ينتظر، وأن أي خلو في السلطة أو نزاع في الشمال سيكون نافذة لاستعادة حقوقه المغدورة باسم الوحدة، التي أسقطتها حرب 1994 بالقوة.
التاريخ يشهد على أن الحراك الجنوبي منذ 2007 وحتى اندلاع الحرب مع الحوثيين في 2015 كان أكثر من مجرد حراك احتجاجي. فقد كان نضالًا متدرجًا على المستويين المدني والسياسي، مؤسسًا لشبكة قيادات وقواعد شعبية صلبة، قادرة على الاستفادة من أي تطورات استراتيجية، بما فيها الحرب الإقليمية. هذا الواقع جعل أي ادعاء بأن السعودية كانت غافلة عن الجنوب، غير دقيق، بل عكس قراءة ناقصة لمستوى وعي التحالف العربي بتاريخ الصراع في اليمن.
*شرعية صنعاء: رهان لم ينجح*
المفاجأة الكبرى لم تكن موقف السعودية تجاه الجنوب، بل رهانها على شرعية صنعاء. افترض التحالف العربي أن الحكومة الشرعية، الممثلة بالرئيس عبدربه منصور هادي، ستتحمل مسؤولياتها الوطنية، وتعيد ترتيب صفوفها لتحرير العاصمة صنعاء من سيطرة الحوثيين، وهو ما كان شرطًا لنجاح أهداف عاصفة الحزم.
لكن الوقائع أظهرت أن شرعية صنعاء تركت العاصمة للحوثيين دون مقاومة حقيقية، وحوّلت تركيزها إلى الجنوب، محاولة إعادة فرض السيطرة السياسية والعسكرية، في وقت كان الجنوب قد اكتسب قوة من خبرته السابقة وصلابة قياداته. وهنا ينطبق الوصف الأخلاقي والسياسي:
*"إن كنت لا تستحي فاصنع ما شئت"*
فكيف للحكومة التي فشلت في حماية العاصمة، أن تتوقع استجابة الجنوب لإملاءات خارجية؟ الواقع أظهر أن القيادة الجنوبية كانت واعية تمامًا لمؤامرات الإقصاء، وأن الشعب الجنوبي أصبح أكثر صلابة وقدرة على مواجهة أي محاولات لإعادة إنتاج تجربة 1994.
*الضغط السعودي على الجنوب: أدوات استراتيجية وليست خوفًا من الانفصال*
بعد تحرير الجنوب نسبيًا من سيطرة الحوثيين، حاولت السعودية توجيه موقف الجنوبيين لدعم جبهة صنعاء، لكنها لم تستخدم القوة أو الدعم المالي والسياسي لمحو إرادة الجنوب، بل لجعله شريكًا مؤقتًا في هدف محدد: مواجهة الحوثيين. هذا يوضح أن الضغط لم يكن خوفًا من استقلال الجنوب، بل استراتيجية لإدارة صراع أكبر يتعلق بالحوثيين وأمن السعودية الإقليمي.
لكن الواقع السياسي السعودي ليس موحدًا بالكامل. فهناك بعض السياسيين السعوديين المرتبطين بالإخوان المسلمين، الذين يسعون لرفع تقارير للقيادة السياسية تفيد بأن الجنوبيين هم من ينقضون الاتفاقات، بينما الحقيقة عكس ذلك تمامًا. هؤلاء يعملون وفق أجندتهم الخاصة، مستغلين غياب حاضنة للإخوان في الجنوب، ويحاولون إحياء تيارات إخوانية شمالية لتكون أداة سياسية ضد الحاكم في السعودية وللسيطرة على الجنوب. وهذا التداخل بين السياسة الداخلية السعودية وتوازنات القوى اليمنية يعقد الموقف ويستدعي فهماً دقيقاً للعبة الإقليمية التي تتجاوز مجرد الصراع العسكري.
*الواقع الجنوبي: صلابة وإرادة*
ما أظهره الجنوب منذ 2015 حتى اليوم هو قيادة صلبة وشعب واعٍ يمتلك خبرة نضالية طويلة. لم يعد الجنوب تابعًا أو هامشيًا، بل أصبح طرفًا فاعلًا في أي تسوية سياسية محتملة. التجربة أثبتت أن أي خطط للتلاعب بالجنوب أو محاولة فرض السيطرة عليه دون تقدير إرادته الصلبة، ستصطدم بالواقع الميداني والتاريخي.
الدرس الأهم هنا: الجنوب ليس مجرد لاعب تكتيكي يُستغل في صراعات الشمال أو للتحالف العربي، بل طرف مركزي في المشهد اليمني، يجب الاعتراف بوجوده التاريخي والواقعي، وإلا فإن أي تدخلات مستقبلية ستفشل كما فشلت محاولات السيطرة السابقة.
الحرب اليمنية ليست مجرد معركة عسكرية، بل هي اختبار للسياسات الإقليمية والقدرة على قراءة الواقع السياسي بدقة. تجربة الجنوب منذ 1994 وحتى اليوم تثبت أن إرادة الشعوب لا تُقهر بمجرد التكتيكات أو التهديدات، وأن التاريخ الطويل والنضال المستمر يفرضان احترامًا لوقائع الأرض.
كما يوضح التداخل الداخلي في السياسة السعودية بين مصالح الدولة والجهات المرتبطة بأجندات إخوانية، أن أي تحرك تجاه الجنوب يجب أن يكون محسوبًا بدقة، ويأخذ في الاعتبار الواقع الشعبي والسياسي الفعلي، لا مجرد تقارير مغلوطة أو اجتهادات حزبية أو أيديولوجية.
وبناء على ذلك، يظل المشهد اليمني معقدًا، لكنه يحمل رسالة واضحة لكل الأطراف: أي تحرك سياسي أو عسكري تجاه الجنوب يجب أن يحسب حساب الأرض الصلبة والوعي التاريخي لشعبها وقيادتها، وإلا فإن كل الخطط ستصطدم بالواقع الصلب الذي لا يقبل إعادة إنتاج أخطاء الماضي.