مداد العاصمة



هاني مسهور : جنوب اليمن ونهاية الأوهام في أمن البحر الأحمر

الجمعة - 19 ديسمبر 2025 - 12:30 ص

هاني مسهور : جنوب اليمن ونهاية الأوهام في أمن البحر الأحمر

صوت العاصمة/ متابعات



تعد التحركات العسكرية الأخيرة للمجلس الانتقالي الجنوبي عبر شرق جنوب اليمن أكثر من مجرد تطور آخر في الصراع الطويل الأمد الذي تشهده البلاد؛ فهي تمثل تحولاً هيكلياً عميقاً في كيفية ممارسة السلطة على طول أحد أهم الممرات البحرية الحيوية في العالم — مضيق باب المندب — مع ما يترتب على ذلك من عواقب مباشرة على الأمن الإقليمي، والتجارة العالمية، والتموضع الاستراتيجي لإيران.

إن ما يجعل هذه التطورات ذات أهمية خاصة هو رد فعل طهران؛ فقد أصدرت إيران بياناً رسمياً صريحاً بشكل غير معتاد يرفض تحركات المجلس الانتقالي في حضرموت والمهرة. لم تكن هذه مجرد إشارة دبلوماسية روتينية، فالدول نادراً ما تستجيب بهذا الوضوح ما لم تتعرض مصالحها الاستراتيجية الجوهرية للاضطراب. في هذه الحالة، تدرك إيران أن توطيد النفوذ في جنوب اليمن يهدد بتضييق — وربما قطع — طرق الإمداد والتهريب الراسخة التي دعمت القدرات العسكرية للحوثيين لسنوات.

طوال العقد الماضي، مارست الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً سلطة محدودة خارج المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، حيث كانت المحافظات الشرقية والجنوبية تُدار عبر ترتيبات هشة، وولاءات متداخلة، وسماسرة قوة غير رسميين. هذا الفراغ الطويل في الحوكمة خلق بيئات تسمح لشبكات التهريب، والتمويل غير المشروع، والجهات المسلحة غير الحكومية بالعمل بأدنى قدر من القيود. ولم يكن غياب سيطرة الدولة الفعالة مجرد خلل مؤقت، بل أصبح سمة هيكلية للمشهد السياسي في اليمن.

لم تكن تحركات المجلس الانتقالي الأخيرة هي من خلق هذا الواقع، بل جاءت استجابة له. فمن خلال فرض السيطرة على المناطق الساحلية الاستراتيجية والموانئ وممرات العبور الداخلية، وضع جنوب اليمن نفسه كفاعل أمني "بحكم الأمر الواقع" قادر على فرض النظام حيث توقفت الدولة الرسمية عن العمل منذ فترة طويلة. وهذا هو السبب في أن هذه التطورات تهم ما هو أبعد بكثير من النقاشات السياسية الداخلية في اليمن أو النزاعات الهوياتية.

غالباً ما يجادل المنتقدون بأن توطيد النفوذ في الجنوب يهدد بتقوية الحوثيين من خلال تعميق تشرذم اليمن. هذا الحجة تسيء فهم كل من المسببات والنتائج؛ فالحوثيون لم يصعدوا بسبب تشرذم اليمن، بل صعدوا لأن الدولة انهارت تحت وطأة الفساد، والتحلل المؤسسي، وترتيبات تقاسم السلطة الجوفاء. ولم تمنع الوحدة الرسمية لليمن سقوط صنعاء في عام 2014، كما لم تمنع إيران من ترسيخ وكيل مدجج بالسلاح في شبه الجزيرة العربية.

على العكس من ذلك، فإن ترسيخ النفوذ في جنوب اليمن يقوض مباشرة إحدى الميزات الاستراتيجية الرئيسية للحوثيين: طرق الإمداد المتنوعة. فلطالما كانت حضرموت والمهرة مساحات تفتقر للحوكمة الصارمة، تمر عبرها الأسلحة والمكونات والتمويل بإشراف محدود. إن تشديد السيطرة على هذه المناطق يحصر نفوذ إيران في محور واحد مكشوف — وهو معقل الحوثيين في الشمال الغربي — مما يجعل استراتيجية الوكلاء لطهران أكثر وضوحاً، وأكثر عرضة للاستهداف، وأكثر كلفة للاستمرار.

هذا الواقع الاستراتيجي يفسر اعتراضات إيران؛ فخطاب طهران حول "وحدة" اليمن ليس دبلوماسية مبدئية، بل هو رد فعل دفاعي تجاه تآكل عمقها العملياتي. إن وجود سلطة جنوبية أكثر تماسكاً لا يقضي على تهديد الحوثيين بين عشية وضحاها، ولكنه يقلل بشكل كبير من مرونة إيران من خلال الحد من المسارات اللوجستية البديلة وزيادة المخاطر المرتبطة بحرب الوكالة.

تمتد التداعيات إلى ما وراء حدود اليمن؛ فمضيق باب المندب ليس ممرًا مائياً محلياً، بل هو نقطة اختناق عالمية يمر عبرها حوالي 12 بالمئة من التجارة العالمية. والاضطرابات هنا يتردد صداها عبر أسواق الطاقة، وسلاسل التوريد، وأنظمة التأمين البحري. وهذا هو السبب في أن البحر الأحمر أصبح ساحة مركزية للتنافس الاستراتيجي الذي يضم إيران وإسرائيل ودول الخليج والقوى البحرية الغربية.

من منظور أمني، لا تُعرف السيادة باللغة الدستورية أو الحدود الموروثة، بل بالسيطرة الفعلية. الأمن البحري يصنعه الفاعلون القادرون على مراقبة السواحل، وتأمين الموانئ، وحرمان القوى المعادية من القدرة على استخدام ممرات الشحن كقوة هجومية. بهذا المعنى، فإن ظهور جنوب اليمن كفاعل أمني منظم يهم أكثر من "الوهم القانوني" لدولة موحدة ولكنها غير فاعلة.

تؤطر الكثير من التعليقات المحيطة بهذه التطورات صعود المجلس الانتقالي كأنه امتداد للنفوذ الإماراتي. هذا التفسير يبسط الديناميكيات القائمة بشكل مخل؛ فالإمارات العربية المتحدة لم تصنع انهيار اليمن، بل تكيفت معه. وتضع الرؤية الاستراتيجية لأبوظبي الأولوية للأمن البحري، ومكافحة الإرهاب، وحماية ممرات الشحن التجاري. ودعم شركاء محليين قادرين في جنوب اليمن يتماشى مع هذا المنطق، لا سيما في منطقة فشلت فيها الحوكمة المركزية مراراً وتكراراً.

تواجه المملكة العربية السعودية الآن معضلة استراتيجية أكثر تعقيداً؛ فقد تشكل تفضيل الرياض الطويل الأمد للحفاظ على وحدة اليمن الرسمية والسعي لتهدئة التصعيد مع الحوثيين بسبب مخاوف أمن الحدود والرغبة في وقف الهجمات العابرة للحدود. ومع ذلك، فإن الحفاظ على تحالفات مبنية على مؤسسات ضعيفة وشرعية متآكلة يحمل مخاطر متزايدة مع تطور حقائق القوة على الأرض بشكل أسرع من الأطر الدبلوماسية.

بيد أن ما يبرز في جنوب اليمن ليس إحياءً لأيديولوجية انفصالية كلاسيكية، بل هو نموذج براغماتي مدفوع بالضرورات الأمنية يعكس تحولاً أوسع في الجيوسياسة في الشرق الأوسط. إن عقيدة الرئيس دونالد ترامب لعام 2025 — التي تدعو الفاعلين الإقليميين لتحمل المسؤولية الأساسية عن أمنهم من خلال أطر إقليمية مثل "اتفاقيات أبراهام" — قد غيرت منطق الدولة وبناء التحالفات. فالفعالية، وتقاسم الأعباء، والاعتماد على الذات إقليمياً باتت الآن تهم أكثر من الالتزامات المجردة بالصيغ السياسية الموروثة.

ضمن هذا الإطار، فإن إعادة ظهور دولة في جنوب اليمن ليس مشروعاً أيديولوجياً بقدر ما هو مشروع وظيفي. إنه يعكس واقع ما بعد التدخل، حيث تفوق السيطرة البحرية، والقدرة على مواجهة الوكلاء، وتقديم الأمن، على الوحدة النظرية. إن جنوب يمن يعتمد على نفسه ومدمج في الترتيبات الأمنية الإقليمية يتناسب بشكل طبيعي مع هذه العقيدة أكثر من استمرار دولة مركزية جوفاء غير قادرة على تأمين أراضيها.

يقدم التاريخ تصحيحاً هاماً لعدم الارتياح الغريزي الذي يشعر به العديد من صناع السياسات تجاه إعادة التشكيل السياسي؛ فالتحولات في هياكل الدول ليست شذوذاً، بل هي القاعدة. فقد كانت يوغوسلافيا دولة اتحادية واحدة قبل أن تتفتت إلى دول متعددة معترف بها دولياً، وانهار الاتحاد السوفيتي إلى خمس عشرة جمهورية ذات سيادة دون أن ينتهي النظام العالمي. وحتى بريطانيا العظمى انتقلت من إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس إلى دولة قومية حديثة من خلال التكيف الاستراتيجي بدلاً من الانهيار الأيديولوجي.

تؤكد هذه السوابق حقيقة أساسية: الاستقرار لا يُحفظ من خلال تجميد الحدود في مكانها، بل من خلال مواءمة السلطة السياسية مع السيطرة الوظيفية. لذا، فإن السؤال المحيط بجنوب اليمن ليس ما إذا كان التغيير يحدث — فالتاريخ يوحي بأنه يحدث دائماً — بل ما إذا كان التشكيل الناشئ يعزز الأمن الإقليمي ويقلل المخاطر النظامية على طول الممرات البحرية الحرجة.

وفقاً لهذا المعيار، يمثل جنوب اليمن بشكل متزايد واقعاً يجب التعامل معه، وليس مشكلة يجب إدارتها. لقد خلصت إيران بالفعل إلى استنتاجاتها؛ والسؤال المتبقي هو ما إذا كانت واشنطن وشركاؤها سيعدلون أطرهم التحليلية وفقاً لذلك — أم سيستمرون في التعامل مع اليمن من خلال افتراضات قديمة لم تعد تعكس كيفية ممارسة السلطة على طول البحر الأحمر.



الأكثر زيارة


الحـ.ـوثي يحشد قـ.ـواته نحو الجنوب .. «تعـ.ـزيزات عسـ.ـكرية .

الخميس/18/ديسمبر/2025 - 04:12 م

علمت "العين الإخبارية" من مصادر أمنية وعسكرية يمنية أن مليشيات الحوثي دفعت بتعزيزات عسكرية غير مسبوقة إلى الجبهات الجنوبية الداخلية في البلاد. وأوضحت


مأرب .. سحل فتاة قاصر من أشقائها بسبب رفضها الزواج من مسن.

الخميس/18/ديسمبر/2025 - 02:07 ص

في انتهاك صارخ لحقوق المرأة تعرضت فتاة قاصر للسحل بشارع في مأرب بسبب رفضها الزواج من رجل يكبرها بسنوات عدة. وقامت والدة الفتاة التي تبلغ 16 عام بتهريب


السعودية تنفّذ حكم الإعـ.ـدام بحق يمني أدين باغتـ.ـيال قائد .

الخميس/18/ديسمبر/2025 - 10:35 م

أعلنت وزارة الداخلية في المملكة العربية السعودية، اليوم الخميس، تنفيذ حكم الإعدام بحق المدعو قابوس سعيد الكثيري، يمني الجنسية، بعد إدانته بارتكاب جريم


إعلام مطار عدن الدولي يشارك في فعاليات أسبوع الجودة بكلية ال.

الأربعاء/17/ديسمبر/2025 - 11:36 م

شاركت إدارة العلاقات العامة والإعلام بمطار عدن الدولي في فعاليات أسبوع الجودة العالمي 2025، التي نظمتها كلية الإعلام بجامعة عدن تحت شعار "من القا