الضالع.. تجليات الجذر النضالي وصمام أمان الحلم الجنوبي
الجمعة - 26 ديسمبر 2025 - 12:40 ص
صوت العاصمة / كتب/ حافظ الشجيفي
في قلب العاصمة عدن، وحيثما تتنفس الحرية من رئة البحر، تشرع الساحة ذراعيها لاستقبال هدير بشري لا يشبهه الا اندفاع السيول في بطون الاودية، حين يقرر التاريخ ان يكتب فصلا جديدا من فصول السيادة والكرامة حيث لم تكن ساحة العروض بخورمكسر مجرد حيز مكاني ضيق، بل غدت اليوم وعاء وطنيا مقدسا يصب فيه ذلك النهر العارم المتدفق من جبال الضالع الشماء، ليؤكد ان وحدة الدم والمصير ليست شعارا يرفع في الواجهات بل هي حقيقة وجودية تتجسد في زحف الرجال الذين نذروا ارواحهم لتربة هذا الوطن. فالمشهد الذي يرسمه ابناء الضالع اليوم في قلب عدن يتجاوز حدود الوصف العابر، فهو تجلي عبقري للمكانة الوطنية والنضالية التي احتلتها هذه المدينة في وجدان كل جنوبي، وهي التي كانت وما زالت الرافد الذي لا ينضب في مجرى التلاحم الشعبي العظيم الساعي نحو استعادة المجد المسلوب وتحقيق الاستقلال الذي لا رجعة عنه.
ان الحديث عن الضالع هو في جوهره حديث عن جذر النضال الذي يمتد الى ما قبل الميلاد الاول لدولة الجنوب العربي، فهي لم تكن يوما مجرد منطقة جغرافية، بل كانت كما ظلت على الدوام الترس المنيع الذي تتحطم عليه اطماع الغزاة، والنصل الحاد الذي لا يخيب حين تشتد الخطوب، وخط الدفاع الاول والاخير الذي يحرس حلم الدولة من التبديد. وهي مصنع الثوار الاوائل ومأوى الشهداء الذين توالدتهم تربة الجنوب بخصوبة منقطعة النظير، حتى صار الدم الضالعي جزءا اصيلا من نسيج كل ذرة رمل من المهرة الى باب المندب. ولعل القول باننا لو لم تكن الضالع موجودة لاخترعناها ليس من قبيل المبالغة الادبية، بل هو اعتراف بضرورة فلسفية ووجودية، اذ لا يستقيم للجنوب كيان ولا يكتمل له بنيان دون هذا العمود الفقري الذي يمنحه القوة والصلابة والقدرة على الانتصاب في وجه العواصف.
وقد برهنت سنوات النضال الطويلة ضد قوى الاحتلال والضم والالحاق ان الضالع كانت السباقة دوما في ميادين المواجهة، سواء كانت المواجهة صرخة سلمية في وجه الظلم او رصاصة حق في صدر البغي. كما كانت الاكثر سخاء في تقديم قرابين الحرية، فما من بيت فيها الا وله حكاية مع المعتقلات او قصة فخر مع الجرحى او وسام عز مع الشهداء، ولذلك نالت النصيب الاكبر من حقد المحتلين الذين ادركوا ان كسر ارادة الجنوب يبدأ بكسر بوابة الضالع، وهو امر ابعد عليهم من نيل الثريا. فقد قامت بدورها الوطني على الوجه الاكمل، وظلت صامدة في خنادق الدفاع عن الارض، وها هي اليوم تزحف نحو عدن لتشارك اخوتها المعتصمين تلك اللحظات الحاسمة التي تسبق رفع راية الاستقلال، لتبعث برسالة يقين مفادها ان القلق لا مكان له ما دام في الجنوب قلب ينبض بنبض الضالع، وان الاستقلال لم يعد مجرد امنية بل اصبح قدرا محتوما تراه العيون في اصرار هؤلاء الرجال.
فالضالع التي كانت وما زالت البوابة الشمالية للجنوب، اغلقت هذه البوابة الى الابد في وجه كل مشاريع اليمننة والتبعية، وعندما تغلق الضالع بابها، فان كل المسميات الزائفة من وحدة قسرية او الحاق استعلائي تسقط وتتهاوى تلقائيا امام حقيقة الارض والانسان. وهذا الاندماج المهيب بين عدن والضالع في ساحة العروض هو الرد العملي والموضوعي على كل محاولات التفتيت والتمزيق، وهو البرهان الساطع على ان الروح الوطنية الجنوبية قد بلغت مرحلة من النضج والتماسك تجعل من استعادة الدولة مسألة وقت لا غير. هكذا نرى التاريخ يكتب نفسه بمداد من نور ونار، حيث تلتقي ارادة الجبل بعنفوان البحر، لتعلن للعالم اجمع ان الجنوب باقي، وان الضالع هي صمام امانه، وان مسيرة التحرر قد بلغت غايتها المنشودة بفضل هذا التلاحم الذي لا يقهر