حشود الضالع… حين يتحوّل الحضور الشعبي إلى حُجّة تاريخية وحقٍّ مشروع
الجمعة - 26 ديسمبر 2025 - 12:57 ص
صوت العاصمة/ كتب/ فضل صالح
ليست الحشود المتجهة من الضالع إلى العاصمة عدن مجرد انتقالٍ في الجغرافيا، بل هي انتقالٌ في المعنى، من الصمت إلى القول، ومن الترقب إلى الفعل، ومن الهامش إلى مركز القرار الرمزي. فالحشود، حين تتشكّل بوعي، تتحوّل من عددٍ بشري إلى خطابٍ اجتماعيٍّ وحقوقيٍّ مكتمل الأركان، يعلن أن الشعوب لا تطالب بحقوقها عبثًا، ولا تحضر إلى الساحات إلا حين يضيق بها فضاء الانتظار.
إن هذا الحشد ينهض على حجّة أساسية مفادها أن التعبير السلمي حقٌّ أصيل، كفلته الأعراف الإنسانية والمواثيق الدولية، قبل أن تعترف به الدساتير.
والاعتصام، في هذا السياق، ليس خروجًا على النظام العام، بل ممارسة واعية للفضاء العام، حين تعجز القنوات التقليدية عن استيعاب الصوت الجمعي.
ومن هنا، يكتسب المشهد بُعده الأخلاقي والحقوقي؛ فالضالع لا تأتي إلى عدن بوصفها طرفًا، بل بوصفها شاهدًا، ولا تتحرك بدافع الغضب المجرد، بل بدافع الإيمان بأن القضايا العادلة لا تموت ما دامت تجد من يحملها إلى الضوء.
وقد اختزل الشعر هذه الحجة في صيغة وجدانية عالية الدلالة حين قال:
*بأعتصم مع الجنوب المعتصم*
*في عاصمتنا بالأخوّة يقوى الاعتصام*
فالصوت هنا ليس صوت احتجاجٍ منفرد، بل صوت تماهٍ جمعيّ، يُسقط الأنا لصالح الـنحن، ويؤكد أن قوة الاعتصام لا تُستمد من العدد فحسب، بل من قيمة الأخوّة بوصفها أساسًا اجتماعيًّا وأخلاقيًّا لأي مشروع عام. إن الاعتصام، في هذا المنظور، ليس مواجهة، بل تلاقيًا، وليس انقسامًا، بل سعيًا لإعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان وحقه، وبين الدولة ومعناها.
وتبلغ الحجة ذروتها حين ينتقل الخطاب من توصيف الواقع إلى استشراف الأفق:
*دولةٌ بشائرُها في الأفق ترتسم*
*بعد غيابٍ دام ستةً وثلاثين عام*
فهنا يتحوّل الشعر إلى وثيقة رمزية، ويغدو الأفق السياسي امتدادًا للأمل التاريخي. إن الغياب الطويل الذي يشير إليه الشاعر ليس زمنًا حسابيًّا، بل حالةً وجودية عاشها المجتمع، حيث تآكلت الثقة، وتعثّر المشروع، وتأجل الحلم. ومن ثمّ، فإن استدعاء الدولة لا يأتي بوصفها شعارًا، بل بوصفها ضرورةً اجتماعية لضمان الكرامة، والعدالة، وتكافؤ الفرص.
اجتماعيًّا، يكشف هذا الحشد عن درجةٍ عالية من التماسك الجمعي، حيث تتقدّم القيم المشتركة على المصالح الضيقة، ويتحوّل الفعل الفردي إلى التزامٍ عام. وحقوقيًّا، يذكّر بأن المطالب العادلة لا تُقاس بردّات الفعل الآنية، بل بعمقها الأخلاقي، وسلميتها، وقدرتها على الاستمرار.
إن حشود الضالع المتجهة إلى عدن تمثل خطابًا حيًّا، تتكامل فيه الشرعية الشعبية مع الحقّ القانوني، ويقترن فيه الشعر بالسياسة، والوجدان بالعقل. وهو خطاب يقول، بوضوحٍ راقٍ، إن الشعوب التي تعرف ما تريد، وتعبّر عنه بوعي وسلمية، إنما تكتب حجتها بقدمها وهي تسير، وبصوتها وهي تعتصم، وبأملها وهي تنظر إلى الأفق.