القَاتُ... خَيطُ السُرةِ الأخيرِ وشرعيّةِ الوجودِ المُطحون ... (زُربة اليمني)
الخميس - 16 أكتوبر 2025 - 01:26 م
صوت العاصمة|كتب |مجيب الرحمن الوصابي:
فِيْ ممالك الروح اليمانية المتشظية، حيث تتساقط الذوات كأوراق الخريف وتتصدع جدران الأوطان تحت وطأة البارود، يرتفع القات لا كشجرة فحسب، بل كـفلسفة وملاذ وجودي أخير... إنها ليست مجرد أوراق تُعلك، بل هي مادة خام لتشكيل الهوية، وآخر خيط حريري يربط الذات بأرض فرّت منها كل المعاني.
وفي رحلة الانكسار الروحي، يصبح هذا الأخضر المُبهج هو النديم الذي لا يخون؛ فهو لا يتطلب عهوداً، ولا يخذل في ساعة الشدة. تكشف رواية "زُرْبة اليمني" لأحمد قاسم العريقي بعمق أن أعمق مستويات العلاقة هي تلك التي تبنيها الذات مع نفسها عبر وسيط القات... فالذات المنهكة التي هجرتها الكيانات الكبرى (من إنسان إلى وطن)، تستبدلها بـآخر رمزي يمكنها السيطرة عليه والتنبؤ به.
لقد تحول القات في هذا الوجدان المتعب إلى مِرساةٍ تمنع سفينة الذات من الغرق في العدم. كيف لا وهو "آخر خيط يربطه بالأرض"؟ هذا التعبير ليس مجازاً عابراً؛ إنه تصوير للقات بوصفه حبل السُّرّة الوجودي، الذي يغذي الكيان بالرسوخ في وجه فضاء لا نهائي من الفوضى والضياع... إن رفض التخلي عنه ليس جبناً، بل هو قرار البقاء، ورفضٌ للموت في زمنٍ كثرت فيه دواعي الفناء.
وعندما تصل الذات إلى أقصى درجات الانفصال عن المحيط، تمنح إرادتها طواعيةً لطقس ثابت. هذا التمسك بطقس ثابت يفرض نظاماً ذاتياً هو قلب المقاومة. ففي عالم انهار فيه القانون وضاعت فيه الخيارات، يجد المرء عزاءه في أن "لا يُريد لنفسه مصيراً غير المصير الذي اختاره القات". وكأن الذات قد تخلت عن عبء الاختيار البشري القاتل، وسلمت دفّة القيادة لـمُحَدِّدٍ أخضر لا يخذل، في محاولة لإثبات وجودها عبر التشبث بهذه المادة الملموسة المضمونة.
إن هذا التماهي العميق يفضي إلى ولادة ما يمكن تسميته "المقاومة الوجودية". ففي اللحظة التي يرتفع فيها صوت الوعيد الصامد: "ما دام القات موجوداً، ستبقى الروح مقاومة"، ندرك أن القات لم يعد مُهدراً للمال أو الوقت، بل أصبح مصدر الطاقة الروحي الذي يغذي الصمود في وجه اليأس الكاسح.
وبهذا، تقدم الرواية رؤية عميقة للقات بوصفه أداة للمقاومة السلبية-الوجودية النبيلة؛ حيث لا تنتصر الذات على الدمار عبر تغيير العالم العاصف خارج النافذة، بل عبر إعادة اختراع عالمها الداخلي وتأثيثه بـشرعية وجودية مستمدة من قوة الصمود. إنها الرواية التي حوّلت هذه العادة المثيرة للجدل إلى أيقونة سردية خالدة لروح الشعب اليمني الذي يرفض أن يُهزم، حتى ولو كان ثمن هذا الانتصار هو رهن مصيره لـ"صديقه الأخضر".