مداد العاصمة



مِنْ غُرابِ قاسم إلى عَرشِ الوجدانِ: القلبُ ومفارقاتُ المعنى الأنثروبُولوجي

الخميس - 06 نوفمبر 2025 - 10:55 ص

مِنْ غُرابِ قاسم إلى عَرشِ الوجدانِ: القلبُ ومفارقاتُ المعنى الأنثروبُولوجي

صوت العاصمة/ كتب / مجيب الرحمن الوصابي:

صديقُ الطفولةِ قاسمُ ..... ، الذي كان يأكل قلوب الغربان طازجة/ رطبة، مُعتقداً في ذلك الزمن الجيد أن هذه العادة ستزيد من ذكائه. ويا للمفارقة، فبدل أن يُحلق عقله في سماء الفطنة، كان يزداد غباءً وفوضى وجنونا و مِعْراسة ورسوبا كل عام...هذا المشهد الساذج، الذي يجمع بين العادة الغريبة والتأثير العكسي، يفتح الباب واسعاً أمام تأملات في مفهوم "القلب"؛ هذا العضو الذي يتجاوز مجرد كونه مضخة بيولوجية ليتجسد في وعينا كرمز متعدد الأبعاد، يتراقص بين الجسد والروح، بين الواقعي والأسطوري، بين الحسّي والوجداني.

إن جاذبية القلب لا تكمن في تصنيفه البيولوجي ضمن "معجم الجسد"، بل في كونه ذلك "الداخل في الإنسان"، المحور الذي عليه تدور كل التجارب البشرية؛ لقد أدركت الشعوب منذ القدم هذه الحقيقة، فسعت إلى استكشاف قواه حتى عن طريق "أكل القلوب"، بوصفها محاولة لامتلاك الجوهر الروحي والصفات الكامنة في المخلوق.

في الطقوس القديمة، كان القلب هو الجوهر الذي يُقدَّم للآلهة أو يُستمد منه الصفات والبركات. تتجلى هذه القيمة العليا في حضارات أمريكا الوسطى؛ فلدى كهنة الأزتيك، لم يكن تقديم قلوب ضحاياهم النابضة على المذابح مجرد قربان، بل كان إمداداً للطاقة الشمسية وحفظاً لدورة الكون، فالقلب هو الطاقة الحيوية التي تضمن استمرار الحياة.

وفي المقابل، وفي ممارسة شعبية تهدف إلى غرس صفة معينة، كان قلب الحمامة المرتعش يُمنح في بعض التقاليد الأوروبية للمرعوبين أو الفزعين في محاولة ساذجة لزرع السكينة المفقودة أو الشجاعة، إذ يُعتقد أن قوة الهدوء المستمدة من هذا العضو الحي يمكن أن تنتقل إلى متلقيه.

وفي العالم العربي، وبعيداً عن الأساطير، يتحول القلب إلى رمز للشرف والضيافة. ففي عادات قبائل شبْوة اليمنية، لا يزال يُقدَّم قلب الأضحية (غالباً الخروف) المشوي طازجاً إلى الضيف الكبير، كأعلى درجات الإكرام والترحيب، إذ يعكس هذا التقليد أن المضيف يضع "قلب" بيته ومكانته أمام ضيفه، مانحاً إياه جوهر الكرم والشجاعة.

ورغم أن منطقنا الحديث يسخر من هذه الممارسات الساذجة، فإنها تكشف عن إيمان عميق بقوة القلب الرمزية، من منطلق أن "القلب" في الميثولوجيا هو سجل الروح ومقر الضمير، كما في مصر القديمة حيث كان يُوزن مقابل "ريشة ماعت" (رمز الحقيقة) لتحديد مصير الروح.

وفي الأدب الشعبي العربي، يرتقي القلب من كونه عضواً إلى عرش الوجدان والذات المتكاملة. إنه ليس مجرد مكان تُسكَن فيه العواطف، بل هو الـ "أنا" الجوهرية للشاعر. حينما تتغنى القصائد بـ "القلب"، فهي لا تعني المضخة النابضة، بل ذلك الكيان الذي "يحزن" ويُصبِر نفسه.

هذا التجسيد يظهر بوضوح في الأمثال الشعبية اليمنية حين تقول: "يارمّانة قدها القلوب ملانة"، معترفة بامتلاء وعائه بالأسرار والمتاعب. ويأتي الاعتراف بتحميل القلب المسؤولية في مناجاته: "ياقلبي يا كتكت شِل همي معك واسكت". وتكتمل معادلة الوجدان حين يُقر المثل العربي بأن "اللي ماهو في القلب ينساه العين"، جاعلاً القلب المصدر الأوحد للحفظ والتذكر، بينما تُشير عبارة "القلوب عند بعضها" إلى الاتصال الروحي العميق.

لقد جعل الشاعر من قلبه "شخصية" مستقلة، تتألم، تشتاق، وتتمرد، فيصبح القلب مسرحاً للحب والهجر. وتتجسد هذه الدراما الوجدانية ببراعة في عناوين الأغاني التي تحكي قصته:

تارة، يُرفع المحبوب إلى منزلة القلب ذاته، حيث يُمنح اعترافاً بالمكانة والاشتياق العميق: "يا حبيب القلب وينك"، و "شل القلب لك" (كإشارة إلى تسليم الجوهر)، وتُوصف شدة القرب والاتحاد بـ "قلبي صار قلبك".

وتارة أخرى، يكون موضع الشكوى والألم الناتج عن الجفاء، حيث تُنشد شكوى القلب المنهك: "مسكين قلب المفارق" مجيب الرحمن، و "القلب كله جراح"، و "قلبي المتعوب"، وحتى الاحتفال بالجرح والمحبوب قاسي الفعل: "لأن قلبه القسي". كما يحمل القلب هم الوجود، يتجسد ذلك في أغنية تحمل الفلسفة ذاتها: "نسَّم القلب دنيا".

إن هذا التماهي بين جوهره العضلي ورمزيته الروحية، بين ما يُقدَّم للضيف إكراماً وما يُنادى عليه في الشعر والأغاني والأمثال، هو سر خلود "القلب" في الأدب والوجدان البشري، مما يجعله المعنى الأعمق لـ "الداخل في الإنسان" الذي لا يحده تصنيف ولا يقيده زمن.




الأكثر زيارة


شاهد "فيديو" يوثق لحظات نادرة من داخل الباص الذي احترق فجر ا.

الأربعاء/05/نوفمبر/2025 - 05:12 م

تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، اليوم، مقطع فيديو يوثق لحظات نادرة من داخل الباص الذي احترق فجر اليوم في منطقة العرقوب، حيث التُقطت المشاهد


ناجٍ من فاجعة "العرقوب" يكشف التفاصيل الكاملة: رائحة حريق سب.

الأربعاء/05/نوفمبر/2025 - 11:17 م

ناجٍ من فاجعة "العرقوب" يكشف التفاصيل الكاملة: رائحة حريق سبقت الكارثة وتأجيل تغيير الفرامل كان مصيريًا كشف أحد الناجين من حادث حافلة "العرقوب" المأسا


وزير الصحة يتفقد جرحى حادثة العرقوب في مستشفى الجمهورية بعدن.

الأربعاء/05/نوفمبر/2025 - 08:00 م

بتوجيهات كريمة من فخامة رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي ودولة رئيس مجلس الوزراء الدكتور سالم صالح بن بريك قام وزير الصحة العامة والسكان


البيان الرسمي الأول يوضح ملابسات حادث العرقوب المروع في أبين.

الأربعاء/05/نوفمبر/2025 - 12:25 م

أعربت الهيئة العامة لتنظيم شؤون النقل البري، في بيان صادر اليوم الأربعاء 5 نوفمبر 2025م، عن بالغ حزنها وعميق أسفها جراء الحادث المروري المأساوي الذي و