الجنوب بين توازنات القوة وانكسار الدولة
الثلاثاء - 30 ديسمبر 2025 - 09:45 م
صوت العاصمة/خاص:
كتب : سمية المشجري
يعيش الجنوب مرحلة سياسية معقدة، تتجاوز توصيف الأزمات التقليدية إلى حالة من إعادة التشكل القسري لمعادلة السلطة والنفوذ، في ظل غياب الدولة بمفهومها المؤسسي، وتنامي مراكز القوى التي تدير المشهد وفق توازنات محلية وإقليمية متشابكة.
لم يعد الجنوب ساحة صراع عسكري مفتوح كما في السنوات الأولى للحرب، بل تحوّل إلى مساحة صراع ناعم، تُدار فيه المعارك بالأدوات السياسية والاقتصادية أكثر من المدافع، وتُحسم فيه القرارات خلف الكواليس لا في ميادين المواجهة. هذا التحول لم يكن نتاج استقرار حقيقي، بقدر ما كان نتيجة إرهاق شامل أصاب جميع الأطراف، ودفعها للبحث عن صيغ مؤقتة لإدارة الواقع بدل حسمه.
في هذا السياق، تبرز حالة الازدواج في السلطة كأحد أخطر مظاهر المشهد الجنوبي؛ فالقوى المسيطرة ميدانيًا تمتلك النفوذ الأمني، لكنها تفتقر إلى بنية مؤسسية قادرة على تحويل هذا النفوذ إلى نموذج حكم مستقر، فيما تبدو الحكومة الشرعية حاضرة بالاسم وغائبة بالفعل، محكومة بقيود سياسية واقتصادية أفقدتها القدرة على الفعل والتأثير.
أما عدن، التي يُفترض أن تكون عاصمة الاستقرار ونقطة ارتكاز الدولة، فقد تحولت إلى مرآة تعكس عمق الأزمة. الخدمات المتدهورة، والضغوط المعيشية المتصاعدة، والانهيار الاقتصادي المتواصل، لم تعد مجرد أزمات طارئة، بل تحولت إلى نمط حياة يومي يهدد العقد الاجتماعي بين المواطن والسلطة. في ظل هذا الواقع، لم يعد الغضب الشعبي فعلًا احتجاجيًا بقدر ما أصبح حالة صامتة من السخط المتراكم.
الاقتصاد بدوره لم يعد مسألة معيشية فحسب، بل أصبح أداة سياسية بامتياز. فالعملة المنهارة، وغياب الرواتب المنتظمة، وتآكل القدرة الشرائية، كلها عوامل تُستخدم – بوعي أو بغير وعي – لإعادة تشكيل المزاج العام وتطويعه ضمن معادلات القوة القائمة. وهنا تتجلى أخطر مراحل الأزمة، حين يتحول المواطن من شريك في الدولة إلى عبء على معادلات النفوذ.
إقليميًا، لا يمكن فصل ما يجري في الجنوب عن التحولات الكبرى في المشهد الإقليمي. فالدعم الخارجي لم يعد مطلقًا، بل بات مشروطًا بالقدرة على ضبط الأرض وتفادي الانفجار. هذا التحول جعل الفاعلين المحليين أمام اختبار قاسٍ: إما الانتقال من منطق السيطرة إلى منطق الإدارة، أو الاستمرار في استنزاف الرصيد الشعبي حتى لحظة الانفجار.
المشهد الجنوبي اليوم لا يشير إلى حرب وشيكة بقدر ما ينذر بتآكل بطيء للاستقرار، حيث تتراجع الثقة قبل أن تتفجر الأزمات، ويصبح الاعتياد على الفشل أخطر من الفشل ذاته.
فالتاريخ لا يُكتب فقط بالمعارك الكبرى، بل أيضًا بلحظات الصمت التي تُهدر فيها الفرص.
في المحصلة، يقف الجنوب عند مفترق طرق حاسم: إما إعادة صياغة مشروع سياسي قادر على استيعاب التحولات وبناء عقد اجتماعي جديد، أو الاستمرار في إدارة الأزمة إلى أن تتحول إلى واقع دائم يصعب كسره. وفي الحالتين، فإن ما يجري اليوم لن يبقى محصورًا في الجغرافيا الجنوبية، بل ستكون له ارتداداته على مستقبل اليمن بأكمله.