(الزّمن ما تغير)
الخميس - 20 نوفمبر 2025 - 01:24 م
صوت العاصمة/ كتب/ مجيب الرحمن الوصابي:
وَيْلاه آه آه ... بهذهِ التنهيدة العميقة، التي تكاد تكون صرخة إنسانية خالدة، تبدأ رحلتنا إلى جوهر القلق الوجودي. إن الزمان، هذا البعد الرابع العصي على القبض، ليس في الحقيقة سوى وهم؛ سائل متفلت يتسرب من قبضة اللحظة، مخلفاً وراءه شعوراً عميقاً بالرعب. رعبٌ لطالما عبَّر عنه الحكماء، كالمتنبي حين أيقن أن عيب الزمان ليس سوى مرآة لعيوبنا، وهي ذات البصيرة التي استنبطها بلفقيه أبوبكر في أغانيه لتجعل الزمان شاهداً على حال النفس لا متهماً.
رحمتك رحمتك يارحمتك يامعين
يَطْرحُ هذا الوهم سؤالاً وجودياً مريراً يشتد بعد منتصف العمر: هل يمكن قتل الزمان قبل أن ينحدر بنا نحو التناهي؟ إن صرخة "قف يا زمان!" هي محاولة يائسة للتمرد على حتمية التردي. فبينما نستطيع قياس المكان وتحديد أبعاده، يظل الزمان لغزاً، لا وجود مادياً له، ولكنه أقوى قوة تحكم حياتنا. هذا ما دفع بفيزياء الكم إلى الاقتراب من حقيقة مذهلة: الزمان بالمعنى المتعارف عليه قد يكون بناءً عقلياً لا أكثر.
رحمتك رحمتك يارحمتك يامعين
لكنَّ الجدل الأعظم يكمن في ثالوثه الأبدي: الماضي والحاضر والمستقبل. القديس أوغسطين، في حيرته الإيمانية، اعترف بأن الزمان "يعرفه؛ ولكن إذا سألت عنه لا أستطيع الإجابة"، ليجد أوغسطين ملجأه في قرارة النفس الإنسانية بين توقع المستقبل وذاكرة الماضي. وهنا، يلتقط بول ريكور الخيط، ليجعل من السرد هو الملاذ الأخير. فالسرد هو أرضية التوافق التي تحفظ الوهم وتقاوم التناهي.
إنّ المشكلة العميقة هي استحالة القبض على الحاضر. كل ما نقرؤه أو نراه هو "ماضٍ" متحقق بالفعل. الماضي لم يعد، والمستقبل لم يأتِ، والحاضر غير موجود دائمًا. وهنا يتجلى وهم الزمان في أبهى صوره الشعرية: عمر وزيد قد ماتا، لكن ليلى العامرية وامرؤ القيس ما زالا فتيةً في ذاكرة القصيدة. إنهم يعيشون في سرد خالد، والسرد ماضٍ لا يموت.
يبقى الزمانُ، إذاً، مأساة وجودية لازمة؛ وهم جميل لا نملك إلا أن نعيشه، فهو متوتر دوماً بين "الهنا" الممتلئ بالذات و"الهناك" الذي لا يتحقق. وفي كل تنهيدة نقول فيها: "الزمن ما تغير"، نحن نرثي وجودنا المحدود ونؤكد سلطة هذا الوهم الساحر.
هي هي السنين عادها عادها الا تزين
والزمن ماتغير بس اهل الزمن ويلاه متغيرين
نبتدي بالمقالة شرحها كان يا ما كان في ذا الزمن
اشتكى الحب حاله وانطوى يذرف الدمعه يشجي الشجن
قال اشكي الزمن واهله اذا الليل جن
والزمن ماتغير بس اهل الزمن ويلاه متغيرين
رحمتك رحمتك يارحمتك يامعين